كتاب " موجز تاريخ العراق " ، تأليف د. كمال ديب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب موجز تاريخ العراق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
موجز تاريخ العراق
وكأنّ الزحف المغولي لم يكن كافياً إذ أصاب العراق وباء الطاعون في القرن التالي فقضى على ثلث السكان. ثم جاء الغزو المغولي الثاني عام 1401 بقيادة تيمورلنك الذي احتل بغداد أيضاً وأمر بقتل سكانها مجدّداً، وحدّد أنّ على كل جندي مغولي أن يقتل شخصين ويقطع رأسيهما ويحضرهما إلى قيادته. وعلى الرغم من أنّ العسكر العراقي كان يستسلم للمغول إلا أنّ هؤلاء أصرّوا على قطع الرؤوس تنفيذاً لأوامر تيمورلنك.
لم يتعطل دور العراق طويلاً إذ منه خرجت قوة بقيادة صلاح الدين الأيوبي أحد الأبطال التاريخيين عند الأكراد، قضت على الممالك الصليبية في بلاد الشام في القرن الثالث عشر، ونُسجت حوله أساطير وقصص ذكرها التاريخ عن حلمه وتسامحه وتعامله مع ملوك أوروبا. وفي القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر أصبح الحكم المحلي في العراق لمماليك تركمان، إلّا أن إيران الصفوية الشيعية كانت تفرض نفوذها وخصوصاً في الفترتين 1508 إلى 1533 و1622 إلى 1633، إلى أن وقع العراق في العام 1533 تحت حكم السلطنة العثمانية، ليصبح ساحة الصراع الأمامية بين السلطنة وإيران. وهذا الصراع أبقى الحكم العثماني في العراق ضعيفاً إلى أن بدأت مرحلة هجرة البدو من أواسط الجزيرة العربية وبخاصة من نجد إلى العراق. غير أنّ حركة عسكرية في بغداد أعادت السلطة المحلية إلى أيدي مماليك – الذين كانوا هذه المرة من أصول جيورجية (من جبال القفقاس) ـ وحصلوا على حكم ذاتي للعراق من الباب العالي عام 1747. واستمر هذا الحكم الذاتي حتى 1831، نجح المماليك خلاله في فرض النظام العام وقمع الانتفاضات القبلية وتحجيم دور القوى العسكرية الانكشارية التابعة للباب العالي. كما عملوا على تنفيذ برامج إصلاحية في الإدارة العامة والاقتصاد. وعندما تعرّضت أراضي السلطنة لغزو مصري بقيادة محمد علي وابنه ابراهيم عام 1831، انتهى الحكم الذاتي في بغداد وعاد الحكم العثماني المباشر بقوة(13).
كانت الغلبة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في قرون الحكم العثماني للسنّة من الطبقة المتوسطة فيما غرق الشيعة والأقليات الدينية في الحرمان والتخلف لعدّة قرون(14). والافتراق السنّي الشيعي المستجد في العراق لم ينشب من العدم، ذلك أن جغرافية العراق جعلته ضحيّة الجوار الايراني الشيعي من جهة والجوار التركي السنّي من جهة أخرى، حيث قام كلا الجارين بدعم أبناء ملّته داخل العراق. ولكن في حين ازدهرت الجماعات السنيّة في العلم والتجارة والمناصب الحكومية في الامبراطوريات المتعاقبة، تراجع الشيعة.
وحتى بعد زوال السلطنة العثمانية من بلاد المشرق عام 1920، استمر الصدع حتى اليوم بين السنّة العرب المنادين بعلاقات وثيقة مع العرب وخصوصاً مع سوريّة، والشيعة، وهم عرب أيضاً، الذين سعوا إلى علاقات وثيقة مع العرب ولكن أيضاً مع إيران، الشاهنشاهية ثم الخمينية(15).
ولم يضعف الحضور التركي والايراني في العراق حتى في ظل نظام البعث (1968 – 2003)، حيث اجتاحت تركيا شمال العراق مراراً لمطاردة ميليشيا حزب العمال الكردستاني، في حين دعمت إيران قوى المعارضة الشيعية وكادت تحتل جنوب العراق عام 1986 لولا التدخل الأميركي المباشر في الحرب بين البلدين.
***
إنّ التنوّع التاريخي العنيف والمليء بالأحداث جعل العراق وطناً لعددٍ كبير من الأعراق والأديان والحضارات. ولكن هذا التنوّع في الإثنيات والأديان لم يكن حكراً على أرض الرافدين، بل إنّ دول المشرق كافة، وكذلك الدول التي كانت تشكل جزءاً من الدولة العثمانية كدول البلقان، ضمّت تنوّعاً مماثلاً في سكانها. ويتألف سكان العراق من جماعات إثنية رئيسة هي العرب بشكل أساسي ثم الأكراد والتركمان والأرمن والأشوريون والإيرانيون، وجماعات أقل عدداً من أصول آذرية وأفغانية وهندية وبلوشية. وبمحاذاة التنوع الإثني ثمّة تنوع ديني حيث ينتمي العراقيون إلى طوائف وديانات معظمها نشأ في الشرق الأوسط، أكبرها المسلمون الشيعة والمسلمون السنة، يليهم المسيحيون واليهود واليزديون والصابئة بدرجة أقل.
ونعود هنا إلى معالجة مقولة جاءت في عدة مراجع أجنبية، نقلها من دون مناقشة أحياناً كتّاب عرب، تقول إن التركيبة العراقية فريدة في نوعها، وإنّ «العراق أقل الدول العربية عروبة». وهذا الرأي يشكو من علّتين:
الأولى أن التركيبة العراقية ليست فريدة في نوعها، لأن المطّلع على ديموغرافية لبنان وسورية سيلاحظ أيضاً تنوّعاً دينيّاً وعرقيّاً كبيراً. ففي لبنان عشرون طائفة دينية وعرب وأكراد وأرمن وإثنيات أخرى. وكذلك في سورية وعلى درجات أقل في الأردن وفلسطين. وحتى تركيا المعاصرة هي دولة متعددة تضم بشكل رئيسي الأتراك والأكراد ثم العرب والأرمن والسريان واليونانيين والبلغار واثنيات صغرى وعدّة ديانات وطوائف. وكذلك جزيرة قبرص الصغيرة التي يعيش فيها الأتراك والعرب (من أصل لبناني) واليونانيون وفيها مسلمون سنّة وعلويّون ومسيحيون أرثوذكس وموارنة. وتكفي النظرة إلى حروب التسعينيات من القرن العشرين في يوغسلافيا السابقة لمعرفة تنوع بلاد البلقان الشديد أيضاً، وهي منطقة كانت خاضعة للسلطنة العثمانية؛ ذلك أن الامبراطورية العثمانية التي جمعت كل هذه الشعوب كانت دولة متعددة القوميات. ولم يكن هذا غريباً، ذلك أن القومية القائمة على اللغة والعرق لم تكن شأناً عظيماً قبل القرن التاسع عشر، فتألفت الامبراطورية المقدونية التي أسّسها الاسكندر المقدوني من عشرات الشعوب من أفريقيا إلى حدود الصين. وكذلك كانت أمبراطورية النمسا (أوسترو - هنغاريا) والامبراطورية الجرمانية المقدّسة والامبراطورية الرومانية والامبراطورية الروسية وصولاً إلى الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.
والعلة الثانية في مقولة إنّ العراق «أقل البلدان العربيّة عروبة»، وإنّ العراقيين على المستوى الاثني ينقسمون بشكل رئيسي بين عرب وأكراد إضافة إلى أقليات صغيرة، هي أنّ العراق شكل نواة الحضارة العربية الاسلامية على مدى قرون ما أدّى إلى اصطباغه الى الأبد باللغة والثقافة العربيّة حتى لو تنوّع إثنيّاً ودينيّاً. وحتى الأكراد نجدهم ضليعين باللغة العربيّة قولاً وكتابةً، من أكبر زعمائهم حتى أصغر طفل، وإن أسهم الحكم الدكتاتوري العراقي في احتقان مشاعر الظلم التاريخي في صفوفهم. ولقد لعب حزب البعث دوراً في انتشار الثقافة واللغة العربية في العراق في العقدين الأخيرين من حكمه، ولكن عدا ذلك كان نظام البعث في العراق أبعد ما يكون عن عقيدة العروبة، بل أصبح حكراً على العشيرة والعائلة والمذهب والعسكر، وأسهم في التطهير العرقي وتهجير السكان وتغيير ديمغرافية المناطق وفي إضعاف الانتماء العربي لدى السكان من أصول غير عربية، ما جعل عملية رأب الصدع في صفوف العراقيين صعبة. وهي أمور سنعود إليها في متن الكتاب(16).
الفريد في المسألة العراقية هو أن اتساع العراق وتعدّد سكانه خلقا تعقيدات جدّية من الصعب معالجتها ليصل العراقيون إلى بناء وطن ومؤسسات موحدة تمثّل كل الفئات بعد انسحاب الأميركيين. فالغزو الأميركي في ربيع 2003 لم يأت ِ من الفراغ، بل تسلل من شقاق العراقيين أنفسهم ومن تنوّع غايات زعمائهم ومنظماتهم ومن الحكم الاستبدادي الذي وحّد البلاد بقوة القمع والاضطهاد والقتل. وعندما تحول النظام إلى عشيرة وعائلة وطائفة، عاد كل عراقي إلى حظيرته القومية والمذهبية(17).
وليس صحيحاً أن العراق لا يُحكم إلا بالقوة، أو أن «السنّة حكموا والآن جاء دور الشيعة» (كما كان يقال عن «الامتيازات المارونية» أثناء حرب لبنان، وأنّ الحل في امتيازات مماثلة للمسلمين لرفع الاجحاف التاريخي)، أو أن «الجمهورية الاسلامية هي الحل» أو أن التقسيم إلى ثلاث دول سيحل مشاكل البلاد؛ إذ إنّ العراق المتطوّر بشعبه المثقف وثرواته الطبيعية كفيل بكتابة دستور وميثاق اجتماعي لخلق دولة الرعاية وحقوق الانسان والمؤسسات الديمقراطية المتعددة الأديان والإثنيات. وما يصلح للعراق من نظام ديمقراطي علماني يحترم حقوق الانسان يصلح أيضاً للبنان ولايران ودول المنطقة كافة.