كتاب " موجز تاريخ العراق " ، تأليف د. كمال ديب ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب موجز تاريخ العراق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
موجز تاريخ العراق
وخلال أسابيع تمّ بناء القوة البريطانية في عبادان تمهيداً لاجتياح العراق. وجاءت ساعة الصفر في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، بعد يوم من إعلان بريطانيا الحرب على السلطنة، حيث أقدم زورق حربي بريطاني على قصف الحامية العراقية على شاطىء شبه جزيرة الفاو عند نهاية شطّ العرب. ولم تكن الدفاعات العراقية ممتازة جنوب العراق، فسقطت قلعة الفاو بأيدي الانكليز خلال يومين وتقدّموا داخل العراق مباشرةً. وخلال أسبوعين احتلوا مدينة البصرة التي تبعد 130 كيلومتراً داخل البر.
كانت استراتيجية السلطنة العثمانية في جبهة العراق هي الدفاع عن بغداد، ما يعني موافقة ضمنية أنّ المناطق كافة إلى الجنوب من بغداد هي حُكماً ساقطة بيد الانكليز الذين اعتقدوا أنّهم غنموا محافظة البصرة، فأخذوا يعززون وجودهم فيها وينظفون المناطق المحيطة بالمدينة من قرى وبلدات من أي مقاومة عسكريّة. وهذه كانت خطة الدفاع العراقي بالضبط، أيّ جر الجيش الغازي إلى داخل العراق حيث المستنقعات والرمال المتحركة والتضاريس الجغرافية المتغيّرة بين الصحراء والأوحال. ولم يدرك الانكليز ما هم فيه لجهلهم بأرض المعركة، فلاحقوا القوة العراقية المنسحبة شمالاً بمحاذاة النهر، وغطت قوات الغزو أراضي من الفاو حتى وسط العراق، على أساس أنّ هذا الزحف هو سلسلة انتصارات ضد السلطنة.
وفي نيسان/ابريل 1915، عيّن البريطانيون عقيداً إنكليزياً هو تشارلز تاونسند لقيادة اجتياح العراق، لكنه سرعان ما أدرك أنّ لا جدوى استراتيجية أمامه من مواصلة الزحف داخل بلاد ما بين النهرين الواسعة، وأقلقه خصوصاً أنّ العراق لا يبدي أي مقاومة تُذكر، فأبلغ رؤساءه بذلك، فظنوا أنّ العراق أصبح مفتوحاً أمامهم ويمكن إكمال احتلاله. فأمروا تاونسند بمواصلة زحفه واحتلال بغداد، جوهرة العراق الاستراتيجية التي يشكل سقوطها بيد بريطانيا نصراً مبيناً على السلطنة العثمانية.
أبدى تاونسند معارضته لفكرة متابعة الغزو لأنّ القوات التي يقودها ابتعدت كثيراً عن خطوط إمداداته على ساحل الخليج كما أنّ بغداد تبعد مئات الكيلومترات عن الفاو، وشرح لقيادته أنّ جيشه ليس مؤهلاً لمعركة بغداد، لأن المسألة تحتاج إلى تموين ومستشفيات ميدانية ومعدات لوجستية وآليات ومزيد من الجنود حتى يرتاح مَن يشارك في الزحف. ولكن الأوامر لم تتغيّر بأنّ من الضروري احتلال بغداد. وهكذا واصل تاونسند الهجوم باتجاه بغداد وسط أراضٍ في غاية الصعوبة، حيث الأوحال تغطي ضفاف الأنهر فإذا خرجت الطوابير العسكرية من نطاق السواد أصبحت في صحراء رمليّة قاتلة تغرق فيها الآليات. ولم تكن في جنوب العراق عام 1915 شبكات مواصلات تذكر بل قادوميات إلى جانب ضفاف الأنهر للدواب والمشاة، فكانت غير صالحة لإدارة حرب حديثة بمقاييس بريطانيا ومعدّاتها العسكرية في ذلك الوقت. وبدل من جيش عراقي نظامي، تعرّض جيش الانكليز بين الفاو وجنوب بغداد لجيوش من البعوض والذباب القاتل ولم تكن المعدّات الطبية مهيأة لهذا الطارىء الصحي.
وسرعان ما انقلب الأمر عندما اقترب البريطانيون من جنوب بغداد، إذ استنتجوا أنّهم قد وصلوا إلى أقصى حدّ يمكن أن تصله إمداداتهم، وأنّ ما يحملونه من معدات وذخيرة لم يكن كافياً لبدء معركة احتلال بغداد. وظنّ تاونسند أنّ القوة التي يقودها من 10 آلاف جندي هي كافية لمواجهة حامية بغداد. وقرر أنّ الهجوم على المدينة هو أفضل من الانسحاب مئات الكيلومترات الصعبة إلى البصرة. فواصل زحفه حتى خرج إليه جيش عراقي من 13 ألف جندي على بعد 40 كلم جنوب شرقي المدينة. وعلى الرغم من أنّ الانكليز تفوّقوا بالقتال في هذه المواجهة وأثبتوا موقعهم في أرض المعركة، إلا أنّ المواجهة كانت فاصلة لأنّ العراقيين نجحوا في قتل نصف القوة البريطانية المهاجمة التي كانت متعبة ومنهكة على أي حال.
وفي ليلة 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1915، وصلت معلومات استخباراتية إلى تاونسند أنّ بقاءه قرب بغداد ليوم آخر سيعرّض ما تبقّى من جيشه لمجزرة على أيدي حامية المدينة التي تستعدّ لمعركة أخرى؛ ذلك أنّه إضافة لحامية المدينة التي واجهته، فقد أرسلت قيادة الجيش العثمانية فرقة من 30 ألف جندي لتعزيز دفاعات بغداد بقيادة الجنرال الألماني «كولمان فون درغولتز»، وهي على وشك الوصول حتى لو سقطت المدينة بيد الانكليز. وكان قد بقي من القوة البريطانية التي غزت العراق أساساً 4500 جندي تنقصهم الذخيرة والمعدات ويعانون من الجوع. لذلك أصدر تاونسند أمراً لمن تبقّى من القوة بالتقهقر والانسحاب جنوباً، وكان هدفه الابتعاد قدر الامكان عن بغداد إلى نقطة آمنة على بعد 400 كلم إلى الجنوب. ولكن الانسحاب لم يكن سهلاً، ذلك أنّ الجيش العراقي بدأ مطاردة القوة البريطانية، فأخّر انسحابها وقتل ألفاً آخر من عناصرها. ولاحظ تاونسند أنّ الانسحاب يتم ببطء شديد بسبب المواجهات المستمرة مع العراقيين ومعنويات جنوده وتعبهم وحالتهم النفسيّة، فقرّر التوقّف عن الانسحاب لحقن دماء من تبقّى من جنوده والمرابطة في قرية «كوت العمارة» التي تحيط بها مياه النهر من ثلاث جهات على أمل التوصل إلى اتفاق لانسحاب مشرّف. فحصّن الطريق الوحيدة التي تربط الكوت بالبر وسجن نفسه في نقطة مُحاصرة.
رأى الخبراء العسكريون الألمان في بغداد حركة تاونسند هزيمة له وخروجاً من المعركة، فأمر الجنرال فون درغولنز كتيبة صغيرة الاحاطة بالكوت، في حين واصل جيش العراق زحفه جنوباً للقضاء على أي وجود بريطاني آخر، والتحصّن في نقاط استراتيجية لمنع أي هجوم بريطاني جديد من جهة الخليج. وبسبب التحركات الدائمة التي أوصلت تاونسند إلى هذا الحصار، خسرت القوة البريطانية الكثير من المعدّات والمؤن التي كادت تكون كافية حتى نيسان/ابريل 1916. فأرسل خبراً إلى قيادته في عبادان أنّ ما تبقى من مؤن ومعدات سيكفيه حتى كانون الثاني/يناير 1916 فقط. فلجأت القيادة البريطانية إلى قرارات عدّة مرتجلة لارسال حملات تحرر تاونسند ورجاله، ولكن الجيش العراقي ردّها جميعاً وقتل عدداً كبيراً من المهاجمين.
استمر حصار القوة البريطانية في الكوت 146 يوماً جاع خلالها الجنود البريطانيون والهنود وتعرضوا لأمراض عديدة. كما أنّ تاونسند تعرّض للحمى، فحاولت قيادتهم إيصال المؤن بالمظلات، ولكن هواء الخريف والشتاء كان يحملها بعيداً. كما أنّ المحاولات للوصول بالمراكب النهرية فشلت لأنّ الجيش العراقي وضع سلاسل حديديّة في النهر قرب الكوت خرّبت المراكب البريطانية. وأرسلت الحكومة البريطانية وفداً لمفاوضة شروط استسلام تاونسند ورجاله في 26 نيسان/ابريل 1916، فاستطاع الخروج من الكوت ومرافقة الوفد البريطاني للقاء القادة العسكريين للسلطنة الذين يطوّقون الكوت. وعرض الوفد البريطاني مليوني جنيه استرليني لقاء السماح للقوة البريطانية بمغادرة الكوت سليمة. ولكن وزير الدفاع العثماني، أنور باشا، من أسطمبول أمر برفض العرض والاصرار على استسلام كامل. فاستسلمت القوة البريطانية بكاملها فوراً وبدون أي شرط للجيش المحاصِر. وأُخذ تاونسند أسير حرب مخفوراً إلى إسطمبول حيث عومل باحترام. أما الجنود فلقد جرهم الجيش العراقي سيراً على الأقدام إلى بغداد على بعد 150 كلم. ومن ثم نقلهم إلى بر الأناضول ليعملوا في السخرة وفي بناء سكة الحديد الألمانية من برلين إلى بغداد حيث مات معظمهم(21).
جنّ جنون لندن للهزيمة المنكرة، فأزاحت كبار الضباط والاداريين من حكومة الهند البريطانية التي أدارت الهجوم الفاشل على العراق، وخصّصت قوات جديدة ومعدات وأرسلت ضباطاً أكثر مهارة لمعاودة غزو العراق مجدّداً في نهاية العام 1916. وكان الانكليز قد تعلموا دروساً قاسية من حملتهم الأولى وأصبحوا أكثر دراية بتضاريس العراق وقدراته العسكرية. فقاد الجنرال «ستانلي مود» جيشاً في كانون الأول/ديسمبر 1916 وفي خطته أن يتجه فوراً إلى بغداد ولا يتوقف عند مدن الجنوب. وأقام خطوط دعم لوجستي متينة حتى يؤمّن خطوطه الخلفية.
واستغرقت حملة «مود» أربعة أشهر استطاع خلالها تطويق بغداد واحتلالها في 11 آذار/مارس 1917، في وقت كانت فيه جيوش السلطنة تتضعضع عند عدّة جبهات وخصوصاً على جبهة قناة السويس (حيث هزم الانكليز جيشاً يقيادة أحمد جمال باشا)، وعلى الجبهة الروسية وجبهات البلقان(22).
وقد قُتل في محاولة غزو العراق عام 1915 و1916، 33 ألف جندي بريطاني، عشرة آلاف منهم من فرقة تاونسند والباقي في جنوب العراق. وكانت هزيمة منكرة للأمبراطورية البريطانية على يد السلطنة العثمانية التي كثيراً ما كان الزعماء الانكليز يقلّلون من شأنها ويؤكدون سرعة سقوطها في الحرب العالمية الأولى.
لقد بدأ الغزو البريطاني للعراق بـ92 ألف جندي ولكن مع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت بريطانيا قد نشرت ما مجموعه 410 ألف جندي في بلاد الرافدين. وفي 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1920 وقع العراق تحت انتداب بريطاني منحته عصبة الأمم الشرعية وأصبح يُعرف بـ«دولة العراق» تحت حكم هاشمي.