أنت هنا

قراءة كتاب بالأمس كنت هناك

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بالأمس كنت هناك

بالأمس كنت هناك

كتاب " بالأمس كنت هناك " ، تأليف زياد أحمد محافظة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
4
Average: 4 (1 vote)
الصفحة رقم: 1

التقديم من رجل رحلَ باكراً

"جرت العادة أن يحصل الإنتاج الأول لأي كاتب على "جواز مرور" للقارئ؛ كلمة لقلم مشهور تتصدر الكتاب، أو جمل موجزة على ظهر الغلاف، أو حملة دعاية واسعة يشترك فيها الكاتب والناشر وأصدقاء الطرفين، يحكون فيها كيف خلقت القصص، وكيف نزفها القلم المجروح وكيف.. وكيف.

أنا أؤمنُ أن الكتاب يجبُ أن يقدمَ نفسه، وإذا عجزَ عن إحراز جزء من طموح كاتبه، فعلى الكاتب أن يقبلَ ذلك ببساطة، كما قبلَ - مرات ومرات- أن يمزقَ قصصاً ليعيدَ كتابتها أو يكتب سواها".

غسان كنفاني

1936-1972

"لكي تكـتبَ نصّــاً جيــداً.. يلزمُـــكَ أن تيـأسَ تمــامــاً".

إنريك فيلا ماتاس

الفصل الأول

ذاتَ نهار.. كانت البداية

كنا حينها وقت الغروب، أحبّ الأوقات إلى النفس الهادئة، حيثُ يكونُ النهارُ قد أفرغ ما في جعبته من حكايا وأحداث، وهمّ بالرحيل هو الآخر، بعد أن فتحَ بيديه الأفقَ لتزاوجٍ مدهش بين الضوء والعتمة. رحيلٌ بعدَ رحيل يمضي النهارُ سريعاً.. مُنهكاً.. ومليئاً بالتفاصيل، فيومُ السفر أضيق من أن يحتمل إنجازَ ما تخطط له؛ وفي سعيك لأن تنجزَ كلَّ أشيائك المهمة، قد يغفلُ ذهنكَ عن بعض التفاصيل التي هي نكهةُ أي سفر وروحه، أما حقيبةُ السفر فلا بد من إغلاقها مهما ضاقت أو اتسعت.. أو حملت قصصاً وأشياء.

كنتُ أظنُّ أن الصداقةَ تنشأُ بين صنوف الناس فقط، أما ما قد يحصلُ بينكَ وبين المكان فهو ألفةٌ لا أكثر، لكن مع كل سفر، أُدركُ أن الصداقةَ يمكنُ أن تنسحب على المكان، بالصورة نفسها التي تنسحبُ فيها على الإنسان أيضاً، وربما بتحيّز أكبر للمكان الذي يعطيك كلّ ما عنده، ويفتح لك إن أَحبكَ قلبه، لتكتشف أشياءه التي خبأها لأجلك منذ مئات السنين. يمكنُ لصداقتك أن تنشأ ليس مع المكان فحسب، بل أحياناً مع جزء بسيط منه، كأن تُصادقَ ملحَ البحر، أو تتعلقَ برائحة مكان، أو حتى ببرودته أو عتمته.

السفرُ سيّدُ الأشياء وأولها، وبدايةُ السرد في كل القصص، هو نقلتكَ الأولى على رقعة الشطرنج في هذه الحياة.. وهو ما يتلو ذلك من نقلات وسقطات. السفرُ روحٌ وخطان في اتجاهين مختلفين.. سفرٌ لذاتك، لعُمقك هو الأقربُ والأصعبُ والأقسى، وآخرُ يأخذكَ إلى فضاءات جديدة. خَطُّكَ الأول ذاتي النزعة والوجهة، لا يشارككَ فيه أحد.. ومن يقوى على الدخول في المساحات المغلقة التي كانت حتى الأمس مجهولةً بالنسبة إليكَ! أما خَطُّكَ الآخر فمشتتٌ قد لا تعرفُ له نسقاً.

مساء يوم سفرنا ذاك، تولّت سلمى ترتيبَ الحقائب، ووضع اللمسات الأخيرة استعداداً للتوجه إلى المطار، حيث كان لكل حقيبة مهمةٌ محددة. حقيبتي اقتصرت على ثلاث بذلات رسمية لأيام عملي الخمسة، ربطاتُ عنق ملونة، قمصانٌ لا تتعدى ألوانها لونين اثنين مهما حاولت، ملابسُ النوم، الجينـز وملحقاته، أحذيةٌ متنوعة وبعضُ زجاجات العطر. أما حقيبةُ سلمى فكانت مسرحاً لملابس تنمُّ عن ذوق رفيع، معطفٌ خريفيٌ طويل تحسباً لبرد مفاجئ، أحزمةٌ جلدية، جاكيتُ جلد وآخر من الشامواه، قمصانٌ بأكمام طويلة وألوان هادئة، أوشحةٌ من الصوف بأحجام مختلفة، ومُجلّدُ القصص القصيرة لغسان كنفاني.

في الحقيقة كان أمام سلمى منذ أن أخبرتها بموعد السفر، وقتٌ قصيرٌ للتحضير لهذه الرحلة التي لم يكنُ مخططاً لها، أو على الأقل في تلك الأثناء التي أعقبت العودةَ من سفر صيفي سنوي اعتدتهُ معها، لكن حين تأتي الأشياءُ على غير المتوقع يكونُ لها رونقٌ مختلف.. كم من مرة كان للمصادفة وقعٌ رائع.. فليس أطيب على النفس من طعم المفاجأة ودهشة الاكتشاف حين تسرقكَ من تخطيط مسبق وتكهنات. كانت سلمى تنتقي الملابسَ وتضعها في الحقيبة بعناية، أما أنا فكنتُ أهربُ إلى غرفة المكتب لأُرتبَ أوراقي العلمية، ومشاريع الأبحاث التي وضعتها في حقيبة جلدية، حملتها معي فيما بعدُ إلى الطائرة.

الصفحات