كتاب " بالأحضان يا بلدنا " ، تأليف أحمد علبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بالأحضان يا بلدنا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بالأحضان يا بلدنا
رحم اللّه الشّاعرَ الكبيرَ عمر أبو ريشة وهو يهتفُ بالأُمّة العربيّةِ الغافلة:
أُمّتي، هلْ لكِ بينَ الأُممِ
منبرٌ للسّيفِ أوْ للقلمِ؟
لا يقتصرُ الكتاب فقط على النُّزُهات وزيارةِ المعالمِ الأثريّة، والتغنّي بمفاتنِ الطبيعة، بل يتطرّقُ إلى مواضيعَ كثيرةٍ: سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ ولغويّةٍ أيضاً. ويهمّنا هنا رأيُه في الفصحى والعامّية. نحنُ نعرفُ أنّ هناكَ كلماتٍ عامّيّةً لا يصِحُّ الاستغناءُ عنها، وإلّا فقدَ النصّ رونَقه وحيويّتَه، وأحياناً معناهُ الدقيقَ. ويمكن في هذه الحالة أنْ يعبّرَ المرءُ عن فكرته بكلمةٍ عامّيّة يضعُها بين مزدوجين. وهذا يُرضي مَنْ لا يرى للفصحى بديلاً، ولا يعترفُ بالعامّيّة، ويعتبرُها لغةً شعبيّةً لا ترقى إلى ضُرّتها الفصحى بأيٍ مِنَ الأَسباب.
يقول أَحمد عُلَبي: «جبالُ الغيمِ الأَبيضِ متراكضةٌ نحوَ الشَّمال. ما بالُها معجوقةً، كما في التعبير العامّيّ على نحوٍ مؤكَّد، إذْ فعْل «عجق» لا أثرَ له في المعجم. ما هَمَّ، هو نازلٌ في قاموس العامّة، مكرَّسٌ مَصُونٌ؛ فلا يُضيرُه أَلّا يعترفَ به القاموسُ الرسميّ... والذينَ يحسَبونَ أنّ العامّيّةَ ضُرَّةٌ للفصحى ومنافسةٌ وخصمٌ، واهمونَ حالمون. حتّى أَحمد شوقي، كبيرُ شعراءِ العصرِ الذي انقضى، كتبَ بالعامّيّة، كَرْمى لعينيْ محمّد عبدالوهاب. ولم يجدْ في الأمرِ إهانةً لإمارتهِ أو حطّاً من قيمته» (ص94).
إنّ القضايا الوطنيّةَ هيَ شغلُ أديبِنا الشّاغلُ، بل دينُه ودَيْدَنُه. فلا يرتاحُ لحظةً من هذه الهمومِ التي تنغّص عليه عيشَه. كيف لا وهو العلّامة الذي لا ينطِقُ إلّا بلغةٍ واحدةٍ، هي لغةُ العقل. ولنسمعه يقول إنّ هناك نباتاً اُسمه «بو رْوَيْص»، وآخَرَ «قَطِعْ وَصِلْ»، وهما يُغليانِ ويُشربانِ، لأنّهما ينقّيانِ المسالكَ البوليّة ويطردانِ الرمل. «ونحنُ، في هذا الوطن، ابتُلينا بما هو أَخطرُ مِنَ الرمل، فهذا قد عمد بعض زعماء الحرب الأهليّة، الذينَ غَدَوْا حكّاماً علينا، إلى شفطه وتعرية بعض الشواطئ منه! داؤنا مريرٌ ومزمن، والدولةُ عندنا في انحطاطٍ متسارع، فهل مِنْ وصفة عربيّةٍ للعلاج؟ والديونُ تُشرشر، والهِجْرةُ تستفحل، والبلدُ يفرَغُ مِنْ أَبنائه، والمافيا المحليّة تضعُ يدَها على كلّ مِرْفَقٍ وشطٍّ» (ص121)!
إنّ مؤلَّف الدكتور أَحمد عُلَبي هو مِنَ الأَعمالِ المميَّزة، سواءٌ من حيثُ الأسلوب الممتع؛ أو الحكايات الجميلة، والطرائف المستحبَّة؛ أو المضمونُ الغنيُّ بالعِبَر والتأمّل، والتي ينفّس بها عن خيبتِه، مروِّحاً، وهو يرى الوطنَ يُباعُ ويُشرى، ولا مَنْ يسأل أو يُبالي. لنقرأ بَوْحَه وهو ينادي الربيع: «تعالَ. أَضِئْ شمعةً في مغارةِ النفوس. أَطلقْ عُصفوراً مِنَ الصدور التي علاها الصدأُ وعُهْرُ الكلام. نادِ بالمتعبينَ والمقهورينَ والمفلسينَ أنّ الوطنَ لا بدَّ عائدٌ إلى أَحبابه، وإنْ طالَ المدى، وأنّهم أَحقُّ به مِنَ الناسِ الذينَ ذبحوه، ونهبوا تُراثَه، وصلبوا قيَمَه، وتاجروا بعظامِه» (ص159).
ويعود مرّةً أخرى ليبديَ رأيه بموضوعٍ حسّاس، كثيرونَ منّا لا يتجرّأونَ على خوضِه بمثلِ هذه الصراحة. مهما يكنِ الأمر، فإنّ نقدَ أَحمد عُلَبي لا ينطوي إلّا على المحبّة، ولا يتوخّى إلّا الخير للجميع. الحقيقة قد تجرح أحياناً، ولكنْ ليس لنا من شفاءٍ إلّا إذا تقبّلناها بالصدر الرحب، والصبر الجميل. لنقرأ عنده: «ليتَ الناسَ عندنا يفكّرونَ بإحياء المعابدِ القديمة وتوسعتها، مثل دير مار ساسين وغيره من المعابدِ العائدة لجميع الطوائف، وذلكَ بدلَ الإقبالِ على إنشاءِ المعابدِ الجديدةِ الفخمة... إنَّ الأَموالَ الطائلةَ التي تُصرف على هذه الأَبنيةِ الدينيّة لو أنّها بُذلتْ لتشييد مستشفًى أو كلّيّةٍ جامعيّة أو متحفٍ للفنون... لكانَ عائدها العمليُّ والحضاريّ أجدى، لأنّ اللّه ليسَ بحاجةٍ إلى معابدَ إضافيّةٍ لكي يذكره الناس. فالدين سلوك وأَخلاق وسيرة عَطِرة، واللّه في القلب وليسَ طَيَّ الرُّخام البارد» (ص172).
ومرّة جديدة لا أخيرة يعود إلى مسألة العيش المشتَرَك، وكيف أنّ سويسرا البلد الذي يتكوّنُ سكّانه من شعوبٍ ثلاثة لا تتقاتل ولا تشهَرُ السلاح. لنسمعه كيف يصبّ سهامه المحرقة على هاماتِ المنافقينَ والذينَ أحرقوا البلدَ وما رفّ لهم جفنٌ، ولا حرّكَ أحدٌ ساكناً: «عندنا الديمقراطيّة مريضة والمنافقونَ في السياسة كَثُرَ عددهم، ولا أَظنّ أنّنا عرفنا، في تاريخنا السياسيّ، نماذجَ للمنافقينَ الدجّالينَ، كأنّهم خرّيجو معاهدِ تمثيلٍ، كالذينَ نلقاهم في أَيّامنا السُّوْد هذه» (ص173 و174).
هذا غيضٌ من فيض، فالدكتور أَحمد عُلَبي ما هو في النهاية إلّا بسمةٌ منوِّرةٌ فوقَ جبينِ الوطن، أو ومضةٌ عبقريّةٌ تُفَرْفِحُ أَيّامنا، وتكسِرُ مِنْ حدّة ضجرِها ونَسَقِها المطّرد.
إنّها لمتعةٌ أدبيّةٌ خالصةٌ تلكَ التي أتحفنا بها هذا الأدبُ الرفيع، الذي هو صدى عقلٍ منفتح، وثقافةٍ عالية شاملة، وقلبٍ كبير ما عرف يوماً إلّا المحبّة طريقاً إلى القلوب.
بالاختصار، كتاب «بالأَحضان يا بلدنا» هو سِفْرٌ فريدٌ ستُقبِلُ عليه بظمأِ الصَّادين، وتَوْقِ العاشقين.