أنت هنا

قراءة كتاب بالأحضان يا بلدنا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بالأحضان يا بلدنا

بالأحضان يا بلدنا

كتاب " بالأحضان يا بلدنا " ، تأليف أحمد علبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

إِمشوا تصِحُّوا

أنا من عباد اللَّه السائرين، يحلو ليَ المشيُ في كلّ حين. والمكتب الذي أَجلس إليه الآن، لأَخطّ خواطري، وهو من السنديان، شأنَ جميع رفوف مكتبتي وخزائنها، أَوصيت عليه، قديماً، عندما كنت في ريعان الشباب، لدى نجّار أرمنيّ في محلّة الدوره. وكنت أَقطع المسافة بين ساحة البرج أو الشهداء أو الحريّة، أو 14 آذار كما اقترحتُ في مقالة سابقةٍ، إلى الدوره مشياً على الأَقدام، يرافقني في هذه النزهة صديقي أبو توفيق؛ وذلك لنتفقّد مجرى العمل في المكتب المذكور، أو طاولة الكتابة، فضلاً عن خزانة كتبٍ أيضاً. ونعود من الدوره إلى ساحة البرج فرأس النبع حيث نقطن، من غير أن يُلمّ بنا نَصَبٌ أو ملل؛ إنّما نباغَت غالباً بأنّنا صرنا أمام باب البيت، وأنّ النزهة انتهت، ولكنّ حبل الكلام لم ينتهِ!

كنّا في أوج الأُمنيات، ومشاريعنا حول الثورة، والوَحْدة العربيّة، واستعادة فَلَسْطين، وتحرير المستعمرات، ومعاضدة الماو ماو في كينيا، وبناء مجتمع العدالة الاجتماعيّة حيث الحريّة ممارسة والديمقراطيّة أُقنوم لازم؛ كانت هذه كلّها، وغيرها من الطموحات، تستعِرُ في صدرينا، وبالتالي كانت لنا حلول ثوريّة؛ وكنّا، صراحةً، في عجلة من أمرنا، نريد أن نحرق المراحل، وأن نجعل بيارق الغد خفّاقة فوق سارية حياتنا الحُبْلى بالانتصارات. كان ذلك كلّه قبل زلزال النكسة في 67، الذي أحال حياتنا وما زال جحيماً؛ وكان النقاش بيني وبين أبي توفيق يجري رخيّاً، ويتقافز في مناحيَ شتّى، خصوصاً وأنّ مطالعاتنا المحمومة كانت تمتدّ في كلّ أفق. وعندما كنت أُبدي رأياً جديداً على جوّ نقاشاتنا يطول البيولوجيا أو الفلك، كان أبو توفيق يخاطبني بمودّته المعهودة، وروحه المحبَّـــبَة، وحماسته الجميلة، قائلاً: هاتِ لنا مصادرك!

إنّ طاولة العمل السنديانيّة، المتقدّمة الذكر، نقلتُها، عندما افتتحت بيتيَ الخاصّ، من عند الأَهل إلى بيت الزوجيّة، وهي بقياس قُرابة مترٍ عرضاً إلى مترين طولاً. ولا غرابة أن أَجعلها من هذا القياس، لأنّ غرفتي الخاصّة لدى أَهلي تكاد تكون في حجم نِصْفِ بيتٍ حديث! وكانت هذه الغرفة تُدعى عندنا: الليوان. وإحدى خزائن الكُتُب طلب منّي نجّار آخَر علوّها، فنظرت إلى سقف غرفتي الذي يرتفع إلى قُرابة ثمانية أَمتار لدى أَهلي، وقلت له: ثلاثة أَمتار. فالأُمور نسبيّة. لهذا عندما نقلتُ المكتب والخزانة، المذكورة منذ هنيهة، إلى بيتيَ الخاصّ الحديث، قصصتُ هذه الخزانة قطعتين؛ كما أنّ النجّار اضطُرّ إلى نزع أَرجل المكتب، ليتمكّن من إدخاله إلى الغرفة التي يستقرّ فيها الآن، ثم أعاد الأَرجل طبعاً إلى موضعها، وإلّا لكان غدا المكتب طبليّة!

وما زلتُ، حتى يوميَ هذا، مولعاً بالمشي؛ لذا تجدني في كثيرٍ من الآحادِ أُغِذُّ السير لكيلومترات، قد تصل إلى خمسةَ عَشَرَ؛ وآلة التصوير مدلّاة من رَقَبتي، محفوظةً في وعاءٍ جلديّ فاخر، على أنّه أَسود، وقد أوصيت عليه فجلبه لي من نيو يورك صديق عزيز. فكيف لا أَستعيد هواية التصوير الفوتوغرافيّ، التي فارقتها لزمنٍ، وعن جانبيّ، خلال الآحاد، مناظر طبيعيّة خلّابة؟ فأنا تارةً أَسلك طريق جزّين ـ كفرحونه ـ عرمتى ـ الريحان ـ العيشيّه؛ وطوراً أَهبُطُ وادي قنُّوبين، أُطالع الجبال المهيبة فوقي، وأُصيخ السمع لوشوشات المياه المنحدرة هنا وهناك. وكم هو ممتع السير في شباط على طريق الغِيْنِه ـ غباله ـ عذرا ـ جورة بدران ـ يحشوش، ونَدْفٌ خفيف جدّاً من الثلج يُداعبك ويُنعش روحك. كذلك كم هو جميل أن تصعّد، سالكاً طريقَ الحصون ـ فرحت ـ طورزيّا ـ إهمج حتى اللقلوق، حيث يتكدّس الثلج، وتستعيد معه ذكريات الشباب عندما كنتَ تهوى التزلّج. فلبنان حيث تذهب، مستتراً في حناياه، يطالعك بطبيعته المعطاء، وإنسانه الطيّب، ولقمته السائغة، وسمائه الزرقاء، وبنسيمه الذي يتغلغل في أَعطافك فكأنّه يداعبك مدغدغاً إيّاك.

وما يزيد هذا المشيَ روعة أنّك بصحبة رُفَقاءِ طريقٍ، وذلك من خلال جمعيّة أهليّة تُعنى بتهيئة هذا البَرْنامج؛ وقد بات بعضهم أَصدقاءَ لك، لأنّكم تشتركون في نزهة المشي والكلام والتنكيت واكتشاف بعضكم لبعضٍ، ثم هناك الغداء اللذيذ بعد سيرٍ حثيث. وإذا كان الحديث يقول: صوموا تصِحُّوا، فإنّ الجمعيّة تذهب إلى شعارٍ متقارب: إمشوا تصِحُّوا. ولها في هذا مآرب طبّيّة عديدة، وإن كانت مآربي الشخصيّة، من هذه الرحلات: أن أَستنشق هواءً نظيفاً لا غِشّ فيه ولا تلوّث؛ وأن أَتنزّه، ليس كما كان يفعل روسُّو في كتابه «اعترافات متنزِّه متوحِّد»، فأنا تُسعدني الجماعةُ وتُغنيني الصداقةُ؛ ثم أن أُحرّك جسميَ الذي يظلّ، معظم أَوقات الأسبوع، مصلوباً إلى المكتب السنديانيّ الذي تقدّم الكلام عليه؛ وأخيراً أن أُجدّد روحيَ ونشاطي، لأنّ معايشة الطبيعة، خصوصاً وهي تتفتّح مع الربيع الطالع، هي متعة ما بعدها متعة ورعشة أيُّ رعشة.

أمّا أن تذهب لائحة للجمعيّة أنّ المشي ينظّم الضغط الشريانيّ؛ فأنا أُنظّمه بالأَدوية، وهي الأَصحّ بالطبع والأَفعل، وذلك في الصباح الباكر، مع تناول الإفطار في الخامسة. لكنّ من فوائد الرحلة، سحابةَ الأحد، أنّ شهيّتي للأكل تنفتح، فإذا بي، في حوالى التاسعة، أَتناول إفطاراً ثانياً مع المجموعة! أمّا أنّ المشي يحرّض الأَمعاء ويحول دون الإمساك؛ فأنا بغنًى عن هذه المنفعة، لأنّ مَعِدَتي، كالساعة السويسريّة في دقّتها، فإنّ توقيتها الصباحيّ هو عَقِبَ النهوض من الفراش. أمّا أنّ المشي يقوّي جهاز المناعة، وبالتالي يطيل العمر؛ فبرنارد شو هو القائل إنّه لاحظ أنّ الرياضيين بين الناس هم أَكثرهم ذهاباً حَتْفَ أُنوفهم، لهذا فإنّ صديقاً غالياً سمّى كورنيش البحر، حيث تتوالى أَرتال المشاة والرياضيين: كورنيش برنارد شو!

أُقرّ مع اللائحة أنّ المشي ينشّط العقل، أمّا أن يقوّي الذاكرة فأنا في شكٍّ من ذلك؛ على أنّه بالتأكيد يساعد على ولوج عالم النوم الهانئ المريح. إنّ آخِر الابتكارات للائحة الجمعيّة هو أنّ المشي يكافح العجز الجنسيّ، فلقد أشارت الدراسات، حَسَبَ رأيها، أنّ الرجال الذين قطعوا حاجز الأَربعين، وكانوا مثابرين على تعاطي الرياضة، هم أَقلّ عُرْضة للإصابة بالعجز الجنسيّ، بالمقارنة مع الذين لا يقربون الرياضة. ولو أنّ الأمر كذلك لوجدتَ طرقات الدنيا حاشدة بالسائرين عليها من الرجال، ولشاهدتَ ملاعب الرياضة حافلة بالمحتشدين فيها، وذلك حفاظاً على لياقتهم الجنسيّة. أليس في هذا تخليط ومجالطة؟! جاء في كُتُب التراث أنّه «قيل لرجلٍ من العرب: قد نزلتَ بجميع القبائل، فكيف رأيت خُزاعة؟ قال: جوع وأَحاديث». ومعظم ما جاء في اللائحة هو بمنزلة «أَحاديث»!

(2005)

الصفحات