أنت هنا

قراءة كتاب بالأحضان يا بلدنا

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بالأحضان يا بلدنا

بالأحضان يا بلدنا

كتاب " بالأحضان يا بلدنا " ، تأليف أحمد علبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

ويك أند في «إهدن»

رحم اللَّه الدكتور عبدالغني شَهْبَندر، فقد كان طبيب العائلة عندنا، وكان يتكلّم بلهجة شآميّة، ولا غَرْوَ، فالرجل دمشقيّ المنبِت. وكانت عيادته تقع في برج أبي حيدر، في بناءٍ يملكه ولا أَجمل؛ وصار اليومَ، بعد الهدم وإعادة العِمارة، بناءً ولا أَقبح! وكان طبيبنا يُصدر مجلّة علميّة طبّيّة هي «الحكمة»، وكنّا بالطبع مشتركين فيها، وما زلت ذاكراً بعض محتوياتها. والدكتور عبدالغني هو ابن العمّ اللزم للسياسيّ السوريّ المرموق، الدكتور عبد الرحمن شَهْبَندر؛ وكان هذا الزعيم مرهوب الجانب، وكانت الكتلة الوطنيّة التي تضمّ القوتلي ومردم بك تحاول استمالته، لكنّه كان يهدف إلى أن يحلّ محلّها! وقد نفاه الفرنسيّون إلى مصر، ومات اغتيالاً وهو في عيادته؛ ويعتبره بعض الدارسين طليعة العَلْمانيّة في سوريا.

المهمّ، بعد هذه المقدَّمة، أنّه كان للدكتور عبدالغني أَحكام جميلة، منها هذه العبارة عن بلدنا: لبنان متل حجر السكّر، وين ما لحَسْتو حلو! تناهت هذه العبارة إلى حافظتي وأنا أَقطع البلدات: أَميون، سِبْعل، أَيطو... صعوداً إلى إهدن، وذلك في الويك أند الفائت، 5 و6 شباط، عندما كان حديث العاصفة الثلجيّة يطِنّ في الآذان، والمَرْصَد يتهدّد المواطنين بمنخفضٍ جوّيّ وافد علينا من البلقان، وتؤكّد مصلحة الأَبحاث أنّه عالي الفعالية يتأثّر به لبنان، وهو سيستمرّ لعدّة أَيّام، ترافقه رياح شَماليّة غربيّة باردة قطبيّة المصدر! طبعاً هناك برق ورعد وأَمطار غزيرة، وتراكمٌ للثلوج وزخّات من البَرَد.

أَعود أَوّلاً إلى عبارة الدكتور عبدالغني، فقد قال: حجر السكّر، لأنّ السكّر قديماً، ما بين الحربين العالميتين، لم يكن يأتي إلينا مكرَّراً ناعماً، شأنه في أَيّامنا، إنّما يفد علينا مخروطيّ الشكل على هيئة قِمْعٍ أو مِسَلَّةٍ، ويدعونه السكّر الروسيّ، وكان لدى الناس نوع من البَنْسَه، من الفرنسيّة pince ، وهي أداة لمعالجة القِمْع وتكسيره ثم استعماله. على كلّ حال فإنّ السكّر الذي عرفناه في صِغَرنا كان شديد السُّمْرة، غير مكرَّر؛ في حين أنّ التجّار يغدرون بنا اليوم ويُدِلّون علينا في بيع السكّر الأَسمر، باعتبار أنّه أَفيد وأَصحّ، وذلك بأَسعار باهظة! تجارة، ويقولون إنّ النبيّ بارك التجارة؛ ولكنّه لم يبارك اللصوصيّة وممتهنيها.

وأَعود ثانيةً إلى الصعود إلى إهدن، والجوّ مكفهرّ، والقلوب واجفة. أنا، شخصيّاً، لم أُبالِ بهذه التهديدات المُناخيّة، لأنّ منطقيَ البسيط أخبرني أنّ الطقس كان بارداً متقلّباً ممطراً منذ بداية الأسبوع، وبالتالي فقد آن له الاستراحة ولو قليلاً في نهايته. ثم إنّ القائمين على الرحلة هاتفوا الأوتيل، فأجابهم القيّم المجرِّب أنْ لا خوفَ، فالطريق مفتوحة، وإنْ تساقط الثلج حَوَالى الأوتيل فالجرّافة حاضرة لجعلها سالكة على الپولمانات. كانت ثلاثة پولمانات مريحة، وقال سائقنا، على الميكروفون، مطمئناً الركّاب، إنّها من طراز حديث ومجهَّزَة بكلّ ما يلزم؛ والسائق، كما في التعبير التراثيّ، اُبن بُجْدَتها، أي ابن كار وهو عتيق فيه عالِم به. وكان الذين حجزوا للرحلة مسبقاً مائة وواحداً وخمسين راكباً، لكنّ الرعب دبّ في رُكَب قُرابة عِشْرين، فاصطكّت هلعاً؛ وهكذا دفعوا المئات من الألوف ثمن اشتراكهم، لكنّهم خسروها بسبب تلكّؤهم وتخلّفهم عن الذهاب، ناسين الآيةَ الكريمة التي يعرفونها، ويقولون إنّهم يعوّلون عليها: {فإذا عَزَمْتَ فتوكّل على اللَّه، إنّ اللَّه يُحبّ المتوكّلين} (آل عِمْران 3/159).

ويا إهدن، جئتُكِ ملهوفاً، وفي البال قصائد الشاعر أسعد السبعلي الذي تغنّى بكِ طويلاً:

إهدن غنّيّة لبنان

عحدود النجمه مجالا

وشمس الجانحها بردان

عم تتبورد عا جبالا

وغيمه بتكمشها بالإيد

جايي عناقيد عناقيد

عم تتمشّط عالقرميد

وعالأرض تجر ديالا

.

كان الويك أند رائعاً ممتعاً دافئاً. وهو ليس دافئاً بعامل التدفئة في الغُرَف وقاعة الطعام فحسب، إنّه خصوصاً دافئ بما تخلّله من ساعاتٍ مترعة بالنشوة والفرح الغامر. وعند العَشاء الحافل جلستُ إلى طاولةٍ مع الأَصدقاء، بحيث كنتُ مواجهاً لزجاج كبير يُطلّ على الخارج. ويا له من منظرٍ آسر، فالثلج يتهاطل من وراء الزجاج نُدَفاً، فكأنّ مئات الفراشات تتناوب على التماوج والاختلاط. واعتلتِ المسرحَ سيّدةٌ حمراء الشعر، طبعاً صِباغ، ذاتُ قدٍّ مشيق على شيء من الامتلاء، وتمايست بحذاقةٍ على وحده ونص، فكأنّها استعارت من الراقصة «راوية» بعضاً من المهارة والإثارة. كان الثلج يتكدّس في كلّ مكان، على المرتفعات يغمرها؛ وعلى الجلالي المتدرّجة يغطّي سطوحها، فتبدو مكسوَّة من جانب السطح عارية من الجانب العموديّ.

ظلّ الثلج يهمي ليلاً، فاستفقنا، بعد ليلةٍ ساهرة، وهو يغمر الطرقات والسيّارات والمساكب؛ فتظهر الأَشجار العارية وكأنّها رِماح مشكوكة في الثلج. وفي قاعة المِدْفأة (الشومينه) كانت النار تتكتك من حينٍ إلى حين وهي تستلّ روح الجُذُوع، ثم تتهاوى هذه على بعضها وقد صارت الجِمار حُطاماً ورماداً. وعندما أَقلعنا، ما بعد ظهر الأحد، عائدين، كانت الپولمانات مغطّاة أَسطحها بالثلج، وكانت تسير متّئدةً في محيط إهدن وجوارها، حتى إذا ما جاوزت بِقاع الثلج اندفعت مسرعة. وعندما بلغنا الساحل، بين طرابلس وبيروت، كانت خيوط الماء تتدافع فوق الزجاج متتابعة في جَرَيانها، ذلك أنّ الثلج، الذي تعتمر به الپولمانات، أخذ عند الشطّ، وقد تغيّرت الحرارة، في الذوبان.

(2005)

الصفحات