كتاب " بالأحضان يا بلدنا " ، تأليف أحمد علبي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب بالأحضان يا بلدنا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
بالأحضان يا بلدنا
غروب وكأنّ الدنيا فقدت حركيّتها، واستكانت إلى هدوءٍ خاشع لا منتهى له. ويزيد من هذا الصمت المعلَّق أنّ البيوت المنتشرة فوق هضبة مجدلبعنا الصخريّة الصامدة، كجبينٍ لا يطأطئ للخطوب، وفوق تلال رويسات صوفر وبِدْغان والمشرفه؛ هذه البيوت لا تزال تستسلم إلى النهار الآفل، في لحظاتٍ انتقاليّة بين النور والظلمة، فلم تستضئ بعدُ بالكهرباء، كما أنّ البلديّات هنا وهناك، لم تعمد، بوساطة العيون السحريّة، إلى إشعال عقود الجُمان التي تربط القرى بعضها ببعض، مزينةً المرتفعات بفوانيسِ فرحٍ بين البيدر والدير، قصدتُ: ضهر البيدر ودير القمر. وهذه الفوانيس الكهربائيّة تبدو في الأفق البعيد مرتجفةً، فكأنّها تغمز لك بآلاف العيون الجذلى!
هذه البيوت الساكنة، في مرحلة الغروب، لكأنّها منطوية على أَسرارها. مَنْ يعرف، وراء الأَبواب المغلقة، أَحوال الناس وأَشجانهم على حقيقتها؟ فالدنيا قِصص، وما الكتابة سوى قَطْرةٍ من محيطٍ حاشد بالأَحزان والأَشواق. نحن نشاهد القِشْرة الخارجيّة من طبائع البشر، حتّى إذا ما أتيح لنا أن نلج خلف الشقوق، من طريق واحدٍ أدرك وروى وأشاع، أو من طريق اُمرئٍ طفح صدره وغَلَتْ عروقه، فرغب أن يبثّ ويعترف، لئلّا تخنقه الغُصَصُ وتُرديَه الزفرات؛ إذا ما أتيح لنا هذا أو ذاك هالنا الأمرُ واجتاحنا العَجَبُ، ورسخ في ذهننا ما كنّا نعلمه من أنّ الناس أَبواب مغلقة وآبار مطمورة. مع الغروب لكأنّ الطبيعة توقّفت عن الحِراك، والنفوسَ خلدت إلى سكونٍ وهدنة. أمّا الأَبواب فازدادت إيصاداً، لكأنّ الرَّصَد حلّ بها!
وما يزيد الغروبَ هدوءاً على هدوءٍ أنّ الجَلَبَة التي تصعد أحياناً، في هذا الوقت، من الصبايا والشباب المتنزّهين، إلى حيث نحن في الطابق الثالث فوق الأرض، هذه الجلبة المسائيّة تلاشت تماماً. فقد مضى أَصحابها إلى مدارسهم وجامعاتهم. انقضت الصيفيّة، وانطوى، بين هؤلاء وأَولئك، فصل المسامرة والمغازلة والمنادمة إلى غير رجعةٍ الآن. لم يبقَ في الجبل سوى المتقاعدين وهواة الطبيعة المغرمين بهذا الفاصل الجميل بين صيفٍ مولٍّ وخريفٍ زاحف. بقي عُشّاق الخُضْرة والقمر، السكينةِ والتأمّل المديد. ها أنا على الشرفة أَترقّب قدوم الغروب، لأُمتّع حواسيَّ، لكأنّه قطعة حلوى ذاتُ نكهة، كأسُ شرابٍ مصقَّعٍ يبرّد الصدر. وها أنّ الغروب يغمر الدنيا ويسربلني بعباءةٍ من المتعة الناعمة، تدبّ في مفاصلي دبيب النمل الأليف.
وعلى حين غِرّة، والسكون يجلبب الكون، والوقت غروب، ينبعث من جامع الشعّار، بمئذنته البيضاء، في الرويسات، قُبَالتنا، في القاطع المقابل عن بُعْدٍ، لجهة اليسار؛ ينبعث صوت رخيم يرتّل بعض آيٍ من القرآن الكريم؛ ومن حظّي أنّها كانت «سورة الإنسان» (76/12 ـ 19)، وفيها دُرَرٌ من الكلام: {وجزاهم بما صَبَروا جنّةً وحريراً. مُتّكئين فيها على الأَرائك لا يَرَوْنَ فيها شمساً ولا زمهريراً. ودانيةً عليهم ظلالُها وذُلِّلَتْ قُطُوفها تذليلاً. ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فِضّةٍ وأَكوابٍ كانت قواريرا. قواريرا من فِضّةٍ قدّروها تقديراً. ويُسْقَوْنَ فيها كأساً كان مِزاجها زنجبيلاً. عيناً فيها تُسمَّى سلسبيلاً. ويطوف عليهم وِلدانٌ مخلَّدون إذا رأيتهم حسِبتهم لؤلؤاً منثوراً...}.
وأَذكر أنّي كنتُ، ذات مرّةٍ، برفقة كبيرنا، رئيف خوري، وأتينا على المنحى القَصَصيّ والجمال الأدبيّ اللذين نلقاهما أَحياناً في القرآن، فما كان من رئيف إلّا أن تدفّق ببعض هذه الآيات البيّنات. وبعدُ، فقد علا الأذان يخترق غَبَش الغروب الهابط، وفيه «حَيَّ على الفَلَاح» يجلجل ويجمّل قُبّة السكون المنسدل بهذه الدعوة المباركة إلى الإقبال على طريق الظفر والنجاح.
والقمر، مع الغروب، حاضر، ولكنّه الآن هلال أَبيضُ يبكّر في الظهور ولا يلتفت الناس لحضوره. وهذا الهلال رأيتُه، منذ أَيّامٍ، فوق الكروم، خلال نزهتي الليليّة، وكان يميل إلى شيءٍ من اصفرار باهت، فحسبتُه خرطةَ شمّامٍ عاجيّةً شهيّةً، قريبة المنال. لم يغدُ بعدُ، كما رأته نازك الملائكة، في قصيدتها الشهيرة «كأس حليبٍ مثلَّجٍ تَرِفِ». وهذا الهلال يزداد امتلاءً كلَّ مساءٍ، ويزداد الحليب فيه دَفْقاً، فأَخاله وجهاً ينضح بالرونق لفتاةٍ زاكية الملامح بريئة اللفتات. حتى إذا ما تقدّم الشهر، وقَرُبَ القمر من أوان بدره، فهنالك الروعة، عندما يُطلّ، وكأنّه يتلصّص، من وراء السلسلة الغربيّة، دائرةً كبرى صفراء؛ ثم لكأنّه يتّكئ على قِمم الجبال، وينهض بعدئذ رويداً رويداً في كبد السماء.
(2005)