كتاب " الإيمان " ، تأليف د. إبراهيم كوكباني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الإيمان
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الإيمان
وصل أبو حلمي، في مطلع الثلاثينات إلى مرفأ بيروت على متن باخرة إنكليزية كانت قد غادرت نيويورك لثلاثة أشهر خلت، عابرة الأطلنتيك، معرّجة على إيطاليا في المتوسط، فمرسيليا... اليونان وقبرص قبل أن تصل إلى الثغر اللبناني، وقد تناقص وزنه بشكل ملفت لأن مؤونته الخاصة كادت تنفذ، ولأن مهاجرنا المسكين قد أصيب بدوار البحر، لا سيما في المراحل الأخيرة، ولم تعد الأدوية، المعروفة في تلك الآونة، تفي بالغرض.
تعرّف أبو حلمي بسهولة إلى إفراد عائلته وبعض الأنسباء، لكنه كان يشهق بالبكاء كلما عانق أو تعرّف إلى ولد يافع من أولاده أو أولاد أخوته، فهو قد غادر البلاد منذ عشرين حولاً، ولا يعلم شيئاً عن الأجيال التي ولدت أثناء غيابه، خاصة أن الصور الشمسية في القرى كانت نادرة جداً، والرسائل المتبادلة تقتصر على سرد الأخبار فقط، فهو يعرف أن فلاناً رزق بصبي منذ عشرين عاماً، لكنه لا يملك أي وصف له، فكان يتفرّس بوجه كل واحد ثم يقول له، استناداً إلى بعض الملامح العائلية: أنت ابن فلان!... "عرفتك على اللايحة".
تمكّن أبو حلمي، دون جهد يذكر، من التعرّف إلى ابنه البكر الذي لم يكن قد بلغ العاشرة يوم سفره، فهو الآن متزوج وله ثلاثة أولاد، لكنه بالمقابل لم يتمكن من التعرّف إلى ابنته آمال التي ولدت بعد مغادرته القرية بخمسة أشهر، وها هي الآن شابة في مقتبل العمر، حسنة الخُلق والخَلق، تمشي بدلع ودلال خاصة أن والدها مغترب ثري وأمواله، كما يشاع، لا تأكلها النيران.
بعد تخليص المعاملات واستلام جميع الصناديق والحقائب، شرع معاون بوسطة الضيعة، بمساعدة بعض الحمّالين، وضع الأمتعة فوق السطح، ثم استوى الجميع في مقاعدهم، فانطلقت المحروسة صعوداً نحو الجبل... تتهادى عبر الدساكر والمروج، سارحة وعين الرب ترعاها...
كان اللقاء على مدخل القرية مؤثراً جداً: عجائز وشيوخ، رجال ونساء، أطفال وفتيان تجمهروا جميعاً لاستقبال المهاجر، ابن البلدة البار، الذي يعود إلى ظهرانيهم مثقلاً بالمال ومكللاً بالغار... وحده مختار الضيعة تخلّف عن هذا الاستقبال، لأن عائلته طالما نافست عائلة المغترب على الوجاهة والزعامة، ولأن المختارة حلمت بأن «المختارية» قد تراءت لها بثوب ملاك يهرب من داخل بيتها ويحوم فوق بيت ذلك العائد حديثاً، وقد فَسّرت ذلك بدنو انتهاء ولاية زوجها الذي كان يرى فعلاً في أبي حلمي منافساً خطيراً له.
دخل أبو حلمي الضيعة دخول الأبطال وسط الأهازيج والزغاريد، وراح القوّال يصدح بالحداء والحوربة، والجوقة تردّد اللازمة:
"أهلاً وسهلاً بالغيّاب
فرّحتم قلب الأحباب
كلن راحوا وما جابوا
إلا السبع راح وجاب"
ثم جاء دور النوبة، فصاح قائدها عالياً: "صحايف، صحايف الدار، أهلاً بقيدوم بلدنا"، ثم أعطى الإشارة ببدء العزف، فراحت النوبة تعزف نشيد التعظيم و"الخديوي" وانبرى الشباب، بعد تأدية السلام للقادم الجديد، بالمقارعة واللعب بالسيف والترس.
عند وصول الموكب إلى دار كنيسة السيدة، ارتقى أستاذ المدرسة أعلى الدرج وراح يرتجل كلمة الترحيب والحمدلة على السلامة. كان مقتضباً ومعبِّراً، وحسناً فعل لأن المغترب المسكين كان قد بلغ من الإعياء والإرهاق مبلغاً كاد يُطّير له "ضبانات عقله"...
شكراً يا أحبائي على هذا الاستقبال الحافل، إنني اشتقت إليكم كثيراً وأحييكم فرداً فرداً وأعاهدكم على أن أظلّ معكم وفياً لهذه القرية الحبيبة ولأهلها الميامين طالما حييت. واسمحوا لي الآن بأن أتابع السير نحو البيت الوالدي، لأنني بغاية الشوق إليه، فتحرّك الموكب نحو البيت، وراح الصبية يركضون في الأزقة والزواريب لاعتلاء أماكن مشرفة بحيث لا تفوتهم عن هذا الاحتفال أية شاردة أو واردة وقد اعتلى بعضهم السطوح المجاورة، ووقفت الصبايا فوق الشرفات ينثرن الورود والأَرُز ويطلقن بعض الزغاريد.
عند الوصول إلى مدخل البيت، ركع أبو حلمي على ركبتيه وراح يقبل العتبة ويشكر الله على رجوعه بالسلامة، ثم ولج إلى الداخل بصحبة أفراد عائلته وبعض الأقارب والأصحاب.
راحت نسيبته وردة تزغرد والنسوة يرددن لولولولوليش، ثم طافت حاملات المرطبات والنقولات للقيام بواجب الضيافة، هذا يُغنّي، ذاك يعزف وآخر يرقص، والبيت في عرس حقيقي، احتفاءً بعودة المهاجر سالماً موفقاً ومعافى. دامت جلسة السمر والأفراح هذه حتى ساعة متقدمة من الليل، ثم بدأ الناس بالانصراف وهم يرددون: تصبحون على خير إلى الغد...
- لم يشأ أبو حلمي تلك الليلة اللجوء إلى الفراش قبل أن يخرج إلى الشرفة ويمتّع ناظريه بأديم السماء الصافي والنجوم المتلألئة، والقمر الأغر... سأل امرأته عن بيت فلان، ولمن هذه الجنينة، وهل أهل بو عبدو ما زالوا يقيمون هنا... كيف المواسم والغلال؟ كيف موسم القمح والتفاح هذه السنة - هل موسم الحرير كان مزدهراً كما العادة والأسعار على رواج؟
- أجابته زوجته، وقد حملت على وجهها ندوب العمر الفاضحة، أدخل يا سندي يا ركن البيت، أخلد إلى النوم أنك مُتعب مرهق والصباح رباح، وسوف يتسنّى لك الاطلاع عن كثب على مجمل هذه الأمور... والأيام أمامنا، بعون الله ومشيئته، ثم وضعت خارجاً جرة الماء والإبريق الفخاري للتسحير لأن البرادات لم تكن يومها معروفة.