أنت هنا

قراءة كتاب الإيمان

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإيمان

الإيمان

كتاب " الإيمان " ، تأليف د. إبراهيم كوكباني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 7

نام أبو حلمي تلك الليلة نوماً عميقاً ولم يتقلب لمرة واحدة من شدة التعب وقلّة النوم... حتى أنه لم يحلم بشيء تلك الليلة، لأن كل أحلامه كانت قد تحققت.
في الصباح التالي، قصد الخوري يوسف بيت المغترب للاطمئنان، ففتحت أم حلمي الباب وبادرته - صباح الخير يا محترم، ما زال الرجل نائماً يغطّ في سُبات عميق، فأجابها الخوري، لقد بلغتْ الساعة السابعة، وحميت الشمس، يجب أن يستيقظ الآن قبل أن تكبسه المحروسة فيظل طيلة النهار يجرجر نعاسه...
- حرام عليك يا محترم... إنه بحاجة إلى النوم، وقد تغيّر عليه الطقس وتبدّل ليله بالنهار.
- معليش. معليش، لازم يتعوّد، أول يوم سيكون صعباً عليه، ثم يتأقلم رويداً رويداً.
سمع أبو حلمي هذا الحوار الصباحي الدائر بين امرأته والوافد.
- من في الباب يا حرمة؟
- إنه الخوري يوسف، جاء للسلام والاطمئنان.
- أهلاً وسهلاً يا محترم، تفضّل أدخل، البيت بيتك.
- صباح الخير يا أبا حلمي، الحمد لله على سلامتك.
- ما تواخذني يا سيدي، لقد بالغت في النوم، كم هي الساعة الآن؟
- السابعة والنصف تقريباً.
- ليلاً؟
- لا، لا، صباحاً.
- أف، بعد بكير، هل قدّست يا محترم؟
- لقد أنهيت القداس وسمعت بعض الاعترافات، وصليت فرضي...
- على كل حال، أعذرني لدقيقة واحدة حتى أحلق ذقني وأبدّل ملابسي، ثم نرشف القهوة معاً.
- خذ وقتك، أمامنا النهار بطوله، سوف نشرب القهوة معاً ونأخذ الترويقة أيضاً ونتجاذب أطراف الأحاديث.
- يا الله، يا معين، السبح لله دائماً وأبداً.
- أرأيتِ يا أم حلمي كيف أن الرجل ما زال يذكر الله، وهو متعلق بأهداب الدين، ويتكل على خالقه، الذي وفّقه وأعاده إلينا سالماً مكتنزاً، فالأصيل يظلّ أصيلاً مهما كثرت الإغراءات وتنوّعت التجارب.
- نشكر الله على كل نعمه.
- لقد ذكرته في قداسي هذا الصباح وقدّمت القرابين عن نيته.
- الشكر لك يا محترم على هذه البادرة "الكيسة"، الله يقدّرنا على مكافأتك.
- لا شكر على الواجب، قالها المحترم وراح يراقب قسمات وجه أبي حلمي وردّات فعله؛ هل سَيَفُك المصرّ أو بعد بكير!... على كل حال عليه أن ينتظر الواصل ليصل.
بعد الترويقة، ووداع المحترم، راح أبو حلمي يدور في غرف البيت ويتحسس الجدران والأثاث برفقة زوجته وأولاده، هذا التخت الحديدي أشرف على التلف يجب إبداله، وكذلك كراسي الصالون. الحائط الشرقي تغيّرت ملامحه بفعل الرطوبة. بحيث أن بياضه تحوّل إلى بني غامق بسبب صدأ المزاريب وقساطل "الوجاق" ويجب قلشه وإعادة طرشه... وكذلك بالنسبة الى المطبخ مع تحديث محتوياته وهذه كلها أمور تستلزم بعض النفقات، فالأموال متوفرة بحمد الله والنية معقودة على العمل، وقد حان الوقت لتكليف المعلم جميل بإجراء اللازم.
المعلم جميل شاب في مقتبل العمر، قوي البنية، نشيط الحركة يتقن في الضيعة عدة مهن اكتسبها بفطنته وشطارته، دون أن يدخل إلى مدرسة أو معهد فني. فهو على السواء دهّان وسنكري، نجّار وبلاّط، لا تعجز يداه عن تنفيذ ما تراه عيناه، إنه صاحب نظرية صائبة وكيف ما رميته يستقرّ جالساً. أنه الوحيد الذي خرج عن القول المأثور: "كثير الكارات قليل البارات"، فهو ميسور الحال يتمتع برصيد مهم في البنك وبيته مليء بكل شيء.
مساء اليوم الأول تقاطرت الوفود، زرافات ووحداناً، للسلام على أبي حلمي وتهنئته بالسلامة. كل عائلة على حدة، وغالباً ما كان يخرج أفراد الواحدة ليلتقوا بأفراد الأخرى على المدخل، فيتبادلون القول: عاقبال ما تشاهدوا غيّابكم. فيكون الجواب: الله يسمع منكم وعاقبال لعندكم. وكان أبو حلمي جالساً في صدر الدار يُبشّ مرحّباً بكل وافد، ثم يستقيم مودعاً عند المغادرة.
كان يروي على السامعين بعض مغامراته التي لا تخلو من الطرافة مع بعض التشويق، فهو محدّث لبق قد شحذته الغربة وصقلت طباعه. فغالباً ما كانت حركات يديه تعبّر عن أقواله بصدق وعفوية، فتارة يتحرّك بهدوء وسكينة وأحياناً بعصبية ونرفزة تبعاً للحديث الذي يدلي به. ثم كان من وقت لآخر يُسلّم بعض الوافدين أمانة مالية أو عينية قد كلّفه بها أحد مغتربي القرية المقيمين في نفس الولاية حيث كان يقيم.
- هذه من ابنك فلان مع رسالة، وهذا مبلغ من عمك فلان مع كلمة صغيرة...
- فكانت الأجوبة شبه متطابقة: الله يطوّل بعمرك، ويعوّض عليهم بدل القرش أضعافاً مضاعفة...
ظلت الوفود تتقاطر طيلة أيام الأسبوع، خاصة عند المساء، بعد أن يكون الأهالي قد عادوا من أعمالهم اليومية، وأبو حلمي يُسلّم على هذا ويداعب ذاك ويستفسر عن أحوال ذلك حتى صبيحة يوم الأحد، عندما مرّ به الكاهن باكراً وأبلغه بأنه سيقدّم قداس الشكر عن نيته، فلبس أبو حلمي أبهى حلله وتوجّه في الوقت المحدد إلى الكنيسة يتقدّم أهل بيته وعائلته، وما أن دخلها حتى سارع أبو شكري، وكيل الوقف، إلى استقباله، ثم أجلسه مع أهل بيته في الصف الأمامي وابتدأ القداس، وراحت الجوقة تنشد التراتيل الطقسية والشماس سمعان يصدح بصوته الحنون مرتلاً الإفراديات، والكنيسة تغصّ بالمصلين من أهالي البلدة والجوار كأنما عيد الميلاد أو الفصح قد حلّ في عزّ الصيف!
طبعاً بعد تلاوة الإنجيل المقدس والتعليق على ما جاء فيه، كان للأب المحترم كلمة موجهة إلى أبي حلمي، بحيث اعتبره ابناً باراً للقرية، وذخراً لسكانها وسنداً لأهلها، وعلى السامع اللبيب والفطن أن يفهم الرسالة!

الصفحات