كتاب " الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة " ، تأليف إميل شاهين ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة
هـذا الكتـاب
إلى روح الشهيد
فرج الله حنين
النضال من أجل إنشاء الجامعة اللبنانية شكل جزءاً مهما من النضال العام الهادف إلى استكمال الاستقلال السياسي ببناء الدولة العصرية القائمة على العدل والقانون. هذا النضال اصطدم منذ اليوم الأول لولادة الاستقلال بالطبقة الحاكمة التي ورثت كامل سلطة المندوب السامي الفرنسي بعد أن كانت تتمتع بالحكم الشكلي تحت سيطرته. هذه الطبقة بدل أن تكمل مسيرة الاستقلال المظفرة بالعمل على إقامة مؤسسات دولة تطمئن الشعب إلى يومه وغده، إذ بها تحوّل لبنان إلى مزرعة يتمتع في خيراتها زعماء القبائل والطوائف والعائلات، ضاربةً عرض الحائط بمصالح الجماهير صانعة الاستقلال. إذاً من اليوم الأول للاستقلال بدأ الصراع بين اتجاهين: اتجاه يريد بناء لبنان الوطن واتجاه يريده مزرعة. هذا الصراع لم يحسم حتى تاريخه، وإن كانت الارجحية للاتجاه الثاني لأنّ كل التسويات المصطنعة بين زعماء الطوائف لم تنتج سوى الحروب، ولاتزال الطبقة الحاكمة تدور في دوامة التسويات الطائفية. هذا الصراع بدأ مع العهد الاستقلالي الأول (بشارة الخوري) إذ إنه كان عهد فساد وأزلام، ومع ذلك تمكنت الحركة العمالية بقيادة المناضل الشيوعي مصطفى العريس عام 1946 من فرض أول قانون عمل خارج القارة الأوروبية. كما تمكنت الحركة الطالبية وبدعم من القوى الحية في الشعب اللبناني، وبعد تظاهرات دموية من فرض إنشاء دار المعلمين العليا كأول نواة للجامعة اللبنانية. زوّروا الانتخابات ليستطيعوا التجديد له، ولكن الشعب اللبناني استطاع أن يقصي بشارة الخوري عن الحكم بعد تظاهرات عادية وسلمية ولم يكمل ولايته الثانية .
أما العهد الاستقلالي الثاني (كميل شمعون) فكان أكثر فساداً وعنفاً بحيث تميز بانحيازه إلى معسكر الرجعية العربية، وإلى تآمره على الدول العربية التحررية (سوريا ومصر). لقد سار في ركاب الأحلاف العسكرية الاستعمارية مما انعكس قمعاً للحريات العامة والحريات الصحفية وتزويراً فاضحاً للانتخابات النيابية. وبدل أن يعير الجامعة اللبنانية الفتية انتباهه ختم أبوابها بالشمع الأحمر. لكن الشعب اللبناني كان أقوى منه، إذ إنه بعد أحداث دامية دامت ستة أشهر تمكن من منعه من التجديد.
العهد الاستقلالي الثالث (فؤاد شهاب) كان وحتى تاريخه العهد الوحيد الذي حاول أن يبني مؤسسات لدولة عصرية: مجلس الخدمة المدنية، البنك المركزي، التفتيش المالي والإداري، الضمان الاجتماعي، مؤسسات مياه وكهرباء لبنان، المشروع الأخضر وكثير غيرها. وكان طبيعياً لمن يحاول بناء مؤسسات دولة أن يولي اهتمامه بالجامعة اللبنانية، فيصدر في العام الأول من عهده مراسيم إنشاء كليات العلوم والآداب والحقوق والعلوم الاجتماعية مما كرس عملياً قيام الجامعة اللبنانية. كثر يعتبرون (عام 1959) التاريخ الفعلي لتأسيس الجامعة اللبنانية؛ كل العهود التالية أهملت الجامعة اللبنانية، ولكن نضال طلابها وأساتذتها المدعوم بأوسع تحرك من طلاب وأساتذة الجامعات الخاصة والنقابات العمالية والأحزاب التقدمية قد نجح في انتزاع قوانين وأنظمة ومكاسب جعلت من الجامعة اللبنانية قبلة أنظار طلاب لبنان والعالم العربي.
إن إنشاء بعض الكليات والمعاهد النظرية، مع أهميته، لايزال بعيداً عن المقومات والمهمات المتوخاة من الجامعة إذ ينقصها إنشاء كليات تطبيقية من هندسة وطب وغيرها. إن إنشاء هكذا كليات لم يكن وارداً في برامج الحكومات المتعاقبة ولا في ذهن رئيس الجامعة الدكتور فؤاد افرام البستاني؛ كل همهم كان أن لا تغضب الجامعات الأجنبية، ومن هم وراءها، من قيام كليات تطبيقية تضارب على الموجود من كلياتها. من هنا كان المطلب الأول الملح للحركة الطالبية: إنشاء كليات تطبيقية من طب وهندسة. ثم إن وجود كليات ومعاهد يتطلب قانوناً للجامعة ينظم هيكليتها الإدارية والأكاديمية والمالية ويعطيها الاستقلالية والشخصية المعنوية. فكان مطلب أهل الجامعة الثاني: قانون تنظيم الجامعة، ومن ضمنه الإقرار بمجالس تمثيلية تشرك الأساتذة والطلاب في إدارتها وتطويرها.
إن وجود الكليات والمعاهد يعني المزيد من الطلاب والأساتذة والإداريين. وهذا يستدعي وجود المزيد من الأبنية ومواقع للدراسة والمنامة والنشاطات المتنوعة. أما الموجود من الأبنية، وبعضه ثكنات من مخلفات الجيش الفرنسي، فإنه غير كافٍ وغير صالح ليستقبل مؤسسات جامعية. من هنا كان المطلب الثالث المحق:بناء مدينة جامعية.
هذه المطالب رفعتها الحركة الطالبية في وجه السلطات المتعاقبة، وتمكنت من تحقيق معظمها مطلباً وراء آخر نتيجة لخوضها نضالات متنوعة من إضرابات واعتصامات وتظاهرات شارك فيها دعماً كل طلاب وأساتذة جامعات لبنان إضافة لتأييد نقابات العمال والأحزاب التقدمية مما فرض على المسؤولين التجاوب واتخاذ قرار إنشاء المدينة الجامعية وتخصيص الأموال لشراء الأرض ووضع التصاميم ثم تنفيذ المرحلة الأولى ببناء كلية العلوم (عام 1969). وبعد الحرب جاءت المساعدات العربية المخصصة لتكملة مشروع المدينة الجامعية في الحدث. هكذا غدت الجامعة اللبنانية أكبر مؤسسات التعليم العالي في لبنان، وأصبحت صرحاً وطنياً يمد الوطن بالموظفين وبأساتذة التعليم الثانوي والجامعي، وبأهل الفكر والثقافة، كما أخذت تغني الحياة السياسية في البلد، إذ إن النضال الطويل من اجل إنشائها وتطويرها بلور تيارات فكرية وثقافية تلاقت مع التطلعات الشعبية في العمل من اجل بناء دولة عصرية ترسخ الاستقلال لمصلحة الشعب الكادح وجميع اللبنانيين.
إلا أن الأحداث اللبنانية وقعت عام (1975) مقطّعة أوصال الوطن ومعها قطّعت أوصال الجامعة اللبنانية، فنبتت فروع الأمر الواقع في (الشرقية) أولاً وانتشرت تباعاً في كل المحافظات اللبنانية مشكلة غيتوات جامعية مقفلة تتحكم فيها قوى الأمر الواقع من الميليشيات الطائفية والمذهبية. في 30 حزيران 1977 صدر مرسوم (التفريع) رقم 122 الذي يقضي بتشريع فروع للجامعة في كل المحافظات، ويسمح لرئيس الجامعة بأن ينوب عن مجلسها إذا تعذر اجتماعه. وتباعاً، ومع تقدم الحرب وعلى وقعها صدرت المراسيم التي عطلت قوانين الجامعة وصادرت استقلاليتها المالية والأكاديمية والإدارية، وأعطت رئيس الجامعة، وعملياً وزير التربية الوصي عليها ومن وراءه حرية تسيير أمور الجامعة بما فيها تعيين الأساتذة والموظفين.
زاد في تأزم مسار الجامعة تضاعف عدد طلابها مع مضاعفة مجالات الاختصاصات، وما سيتبع ذلك من ضرورة مضاعفة الكادرات العلمية والهيئات الإدارية والمباني الجامعية، وكذلك مضاعفة ميزانيتها. ولكن حكومات الطائف المتتالية قد عملت عكس ذلك، (وزير المالية بالوكالة ثم بالأصالة ثم رئيس الوزراء)، وباسم التقشف وعصر النفقات جرى تقليص ميزانيتها الشحيحة أصلاً بحيث تحولت الى ميزانية أجور ورواتب مما هدد قدرتها على الاستمرار في القيام بمهمتها الأكاديمية (ومنها الأبحاث العلمية والبعثات) وحتى الإدارية.
مع ازدياد أزمة حكومات السلم الأهلي (ما بعد الطائف) التفتت هذه السلطات إلى الجامعة اللبنانية ليس لمساعدتها بل لأنها وجدت فيها مرفقاً عاماً مهماً للتوظيف، تحشر فيها الأزلام والمحاسيب. ووجدت في تعطيل ما تبقى من قوانينها وأنظمتها فرصة للتخلص من المجالس التمثيلية واستقلاليتها كمؤسسة مما يسهل وضع اليد عليها وتحويلها من صرح للعلم إلى دكان يتقاسم المسؤولون فيه النفوذ ويتناتشون الحصص باسم التوازن وحقوق الطوائف. قد يكون هذا التوازن مقبولاً في التعيينات الإدارية أما أن يكون توازناً طائفياً بين أساتذة العلم فهذه بدعة لم يسبقهم إليها أحد في العالم. دكتور في الرياضيات مثلاً تصبح كفاءته في انتمائه لهذه الطائفة أو تلك أو عبر ولائه لهذا الزعيم أو ذاك. هكذا أصبح لكل زعيم تيار سياسي يضاف إلى الأحزاب والحركات الطائفية الميليشياوية التي أوجدتها الحرب اللبنانية، فيحتدم الصراع أو يقوم التحالف فيما بينها وفقاً لتحالف أو تضارب مصالح قياداتها. نتيجة لذلك تعطلت الحياة النقابية، إذ أصبحت رابطة الأساتذة المتفرغين متفرغة لغير مصالح الجامعة إلا قلة منهم وإذا رفعت مطلباً فإما رفعاً للعتب أو للضرورة القصوى. أما الحركة الطالبية، وهي كانت الأساس في نشوء الجامعة، فهي في وضع مزرٍ، إذ إن الاتحاد الوطني لطلبة الجامعة اللبنانية أصبح في خبر كان ولا توجد في الأفق إمكانية لإعاده إحيائه، لأن الطلاب كما البلد منقسمون طائفياً ومذهبياً، ولا توجد إرادة توحيدية لدى مختلف القوى المهيمنة على قرارات الطلاب. علماً أن الحركة الطالبية لم تقم منذ اندلاع الأحداث عام 1975 بأي تحرك يهم شؤون الجامعة، وكأن اهتمام الطلاب تحول من هموم العلم وتأمين المستقبل الى هموم دعم وإبراز قوة هذا الحزب أو ذاك التيار، تماماً كما هي مواقف عامة الناس الذين نسوا فقرهم وتعتيرهم ولم يعد يشغلهم سوى دعم زعماء طوائفهم في تقاسم جبنة الحكم.