كتاب " الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة " ، تأليف إميل شاهين ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الجامعة اللبنانية - ثمرة نضال الطلاب والأساتذة
I ـــ العملية التربوية في العهد العثماني
بعد توقيع معاهدة الصداقة عام 1535 بين السلطان سليمان القانوني وملك فرنسا فرنسوا الأول، التي حصلت فرنسا بموجبها على امتيازات في أراضي السلطنة، أخذ يتكاثر غزو لبنان من قبل الإرساليات الكاثوليكية الفرنسية بهدف القيام بنشاط تعليمي وتبشيري، وتبعتها إرساليات أخرى من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، وكانت أهمها الإرسالية الإنجيلية الأمريكية. أخذت هذه الإرساليات تتسابق على فتح المدارس التبشيرية في جبل لبنان ومن ثم في بيروت، وذلك سعياً وراء إيجاد مواقع نفوذ اجتماعية لدولها داخل أراضي السلطنة العثمانية، وطمعاً في أن يساعد ذلك في تأمين المتعاونين والموظفين والمترجمين والوكلاء والمتعهدين. ومع الوقت شكلت هذه الإرساليات مع القناصل والتجار دولاً داخل السلطنة.
لجأت السلطنة العثمانية، في محاولة لوقف تنامي نفوذ الإرساليات، إلى إقرار إصلاح تربوي على المستويين الابتدائي والثانوي. صدر هذا القانون (الإصلاحي) في عام 1846، وكان ينصّ على إنشاء مجلس دائم للمعارف (لاحقاً أصبح وزارة المعارف) يحل محل السلطات الدينية، وأوكلت إليه مهمة تنظيم العملية التربوية بالتدرج من الابتدائي إلى الثانوي، ثم العالي. ولقد نص القانون على مجانية التعليم الرسمي، وعلى أن يجري تدريس القراءة والكتابة وعلم الحساب بالإضافة إلى التربية الدينية. يعتبر هذا القانون أول تدخل من الدولة في العملية التربوية، إذ كان التعليم قبلها وقفاً على المدارس الخاصة التابعة للطوائف: رجال الدين المسلمون يعلمون أبناء طائفتهم وكذلك يفعل رجال الدين المسيحيون.
في عام 1869 صدر قانون عثماني يعطي لكل قومية أو طائفة الحق في تعليم أبنائها، مما كرس طائفية المدرسة. كما كرس هذا القانون الحرية الواسعة للمرسلين الأجانب والمبشرين الذين تقاطروا على جبل لبنان وبيروت لينشئوا فيها مدارسهم الخاصة. وهذا ما كرس التعليم الأجنبي الذي سرعان ما طغى على المدارس المحلية المسيحية المنتشرة في البلاد.
وفي عام 1913 صدر قانون عثماني ينص على إلزامية التعليم المجاني الابتدائي وبأن يشمل كل احياء المدن وكل قرية في المناطق. لكنه لم يطبّق وبقي التعليم الرسمي مقتصراً على مدارس ابتدائية منتشرة بعدد قليل في قرى الأطراف، ولا يرتادها إلا أبناء الفقراء وأكثرهم من المسلمين. كذلك فإنّ تدريس اللغة التركية فيها قد ضاعف من تعثر المدرسة الرسمية العثمانية.
وفي عام 1894 صدرت إرادة ملكية تفرض تعليم اللغة التركية على المدارس غير المحمدية. على اعتبار أن المدارس الإسلامية تدرسها، وكان المقصود تتريك البلاد العربية. لاقت هذه الخطوة الفشل الذريع لعدة أسباب أهمها:
1- الشعور القومي العربي المتنامي مع الدعوة إلى النهضة بين العرب خاصة من المثقفين المسيحيين.
2- الشعور العربي بأنهم باتوا الأكثرية في الإمبراطورية العثمانية بعد أن انسلخت عنها دول البلقان، وبالتالي فأن لغتهم العربية يجب أن تسود.
3- العربية هي لغة القرآن الكريم؛ وبالتالي هي عند العرب بمثابة القداسة.
لم تنجح كل المحاولات (الإصلاحية) التركية، إذ بقي التعليم الابتدائي الرسمي المجاني وقفاً على مدارس قليلة في الأطراف. أما التعليم الثانوي فبقي مقتصراً على المدارس الطائفية المسيحية في جبل لبنان وبيروت.
هذه القوانين الإصلاحية أعطت مردوداً سيئاً إذ كرست حق كل طائفة بتعليم أبنائها، أي أنها طيَّفت العملية التربوية ورسخت الانتماء الطائفي اللاوطني، وهذه تبقى علة العلل في النظام اللبناني حتى تاريخه. والأخطر في هذه القوانين أنها أعطت الإرساليات الأجنبية، وكلها مسيحية، الحق في فتح المدارس مما كرس حرية التعليم الأجنبي الطائفي وما فيه من الولاء لثقافات أجنبية. يتجلّى هذا التأثير في نشوء تيارات مسيحية تدعو للارتباط بالغرب وخاصة بالأم الحنون فرنسا، وأن تتنكر لمحيطها العربي، تقابلها تيارات إسلامية تدعو للوحدة السورية أو الوحدة العربية. هنا يكمن الأساس التاريخي لازمة النظام اللبناني. ولا ننسى أن فرنسا المنتدبة (المستعمرة) لعبت قسطها في تعميق الانقسام الطائفي، وكذلك الطبقة الإقطاعية البرجوازية التي هيمنت على الحكم منذ الاستقلال وحتى تاريخه.
تأسيس الجامعتين الأمريكية واليسوعية
أدى التسابق بين مختلف الإرساليات إلى نهضة علمية في جبل لبنان وبيروت. ومع الوقت (أصبح من الضروري إنشاء مؤسسات للتعليم العالي)، كما أتى في مذكرات دانيال بلس مؤسس الجامعة الأميركية عام 1866 باسم (الكلية السورية الإنجيلية)، وقد تم إنشاء كليّاتها بالتتابع: 1866 كلية الآداب والعلوم، 1867 كلية الطب، 1871 كلية الصيدلية، 1900 كلية التجارة، 1905 كلية التمريض، أما كلية طب الأسنان فقد أُنشئت عام 1910 ولكنها أغلقت لاحقاً في عام 1940.
تبع تأسيس الجامعة الأميركية تأسيس جامعة القديس يوسف عام 1875 بكلية اللاهوت، تبعها عام 1883 افتتاح كلية الطب، وفي 1889 كلية الصيدلة، وتمّ إلحاق هاتين الكليتين بكلية الطب في ليون تحت اسم كلية الطب والصيدلة في بيروت. وفي العام 1913 تأسست كلية الهندسة، وكلية الحقوق والعلوم السياسية. وفي 1920 كلية الأسنان، و1922 كلية التمريض و1942 كلية الصحة العامة.
المثقفون النهضويون
لقد كان لتأسيس هاتين الجامعتين الأثر البالغ في مسار التعليم العالي في لبنان، إذ احتكرتاه احتكاراً مطلقاً منذ تأسيسهما وحتى منتصف القرن الماضي، تاريخ تأسيس الجامعة اللبنانية عام 1951. ولقد برز أثرهما على كل الجامعات التى أسست بعدهما إذ إنها نشأت على منهاج إحداهما: فرنكفوني أو انكلوسكسوني. إذاً التعليم الجامعي في لبنان كما التعليم الثانوي بدأ واستمر كتعليم أجنبي لغة وثقافة ومنهاجاً. تبين مما تقدم أنّ المدارس الطائفية المحلية ومدارس الإرساليات الأجنبية التبشيرية احتكرتا العملية التربوية في لبنان في القرنين الأخيرين من الحكم العثماني، لكن ذلك لم يمنع من وجود مثقفين متنورين قاموا بتأسيس الجمعيات الأدبية والسياسية وعقدوا المؤتمرات التى تدعو إلى التحرر والاستقلال، والى العلمنة وتحرير المرأة وتعلمها ودعوا إلى الوحدة السورية أو العربية. ولهذه الغاية أسسوا المجلات والجرائد في لبنان وسوريا ومصر وديار الاغتراب. وفي محاولة للوقوف بوجه التعليم الطائفي، ومن أجل وطنية جامعة أسس المعلم بطرس البستاني في عام 1863 (المدرسة الوطنية) التي تعد اول مدرسة علمانية في المشرق العربي كونها غذت خريجيها بالحس الوطني والشعور القومي، ومع الأسف بقيت هذه المدرسة شبه وحيدة حتى الحرب العالمية الأولى.
من هؤلاء المثقفين النهضويين الشيخ ناصيف اليازجي الذي عرّى النظام المقاطعجي وابنه إبراهيم اليازجي الذي بسط الحرف العربي للطباعة، وكان من الداعين لنهضة العرب:
تنبـهوا واستفـيقوا أيـهـا العـرب
فقد طمى السـيل حتى غاصت الركب
ومنهم من كان رائداً في صياغة فكرة الوطن العربي السوري الذي تجمع شعوبه وحده اللغة والتاريخ المشترك والثقافة الواحدة كالمعلم بطرس البستاني. ومنهم من كان أكثر جذرية كالأستاذ احمد فارس الشدياق الماروني الذي اعتنق الأفكار الاشتراكية. وكما أن لائحة المدارس الطائفية تطول، كذلك يقابلها لائحة أطول من النهضويين من بين الذين هم بأكثريتهم الساحقة من المسيحيين. هكذا تكونت أول بوادر الصراع بين (القوى الوطنية) التي تريد العلم في خدمة الإنسان وقيام لبنان العربي المستقل وبين من يستخدم العلم بغطاء طائفي لمصلحة الطبقة الإقطاعية والمقتدرين المتعاونين مع الأجنبي.