كتاب " نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة " ، تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة
الثاني: سبب ذاتي تماماً يتمثل في ارتباط بدوي الوثيق بحياة وأفكار شخصية نيتشه الأرستوقراطية المتحررة وثورته ورفضه للعادات والقيم القديمة ونظراته الثاقبة في الحياة والكون التي تمثل سمواً نظرياً وثورة روحية ذات تأثير في العقول يفوق سلطة الهيئة الاجتماعية والدول بمؤسساتها المختلفة حيث ينتمي بدوي للأرستوقراطية المصرية ـ طبقة الأعيان ـ ويحرص على تأكيد ذلك. وهو يمثل الصفوة الثقافية مما أوجد نوعاً من التقارب، إن لم يكن من التطابق والتوحد، بين الرائد العربي والمفكر الألماني، الذي أعلى من الإرادة والوجدان. على العكس مما نجد لدى بعض العرب من الماركسيين والإسلاميين، مثل عبد الوهاب المسيري على سبيل المثال، الذي يعتبر نيتشه فيلسوف العلمانية والعدمية الأكبر. ويجد أنه سبب انهيار منظومة الحضارة الغربية، وكذلك لدى كل من مراد وهبة ومحمود أمين العالم؛ أما بدوي فهو إن صح القول نيتشه العربي.
وبدوي نفسه يعترف فيما كتبه بتأثير نيتشه القوي فيه. يقول عن نفسه: «فيلسوف مصري ومؤرخ للفلسفة. فلسفته هي الفلسفة الوجودية في الاتجاه الذي بدأه هايدغر... وقد أحاط علماً بكل تاريخ الفلسفة. وتعمق في مذاهب الفلاسفة المختلفين، والألمان منهم بخاصة. لكن أقوى تأثير في تطوره الفلسفي إنما يرجع الى اثنين هما هايدغر ونيتشه» (37).
وقد ظهر تأثره بهايدغر في كتابه «الزمان الوجودي» 1945 وهو تأثير يحتاج الى تفصيل. إلا أن مهمتنا هنا هي دراسة نيتشه انطلاقاً من جهود بدوي. فالثورة والتمرد وزعزعة الأسس والأفكار السائدة وقلب القيم المتعارف عليها ـ التي تمثل دعوة نيتشه ـ وجدت صدى عند المفكر العربي. ومن هنا فإن الذي نسعى لطرحه هو خصوصية نيتشه في فكر بدوي وقراءته السياسية له وأهمية كتاب بدوي عن الفيلسوف الألماني، الذي أثر في وعي جيل كامل من المثقفين العرب ممن وجدوا في بدوي تجسيداً لأفكار نيتشه. أو بعبارة أخرى، يمكن القول إن تأثير بدوي الكبير يرجع الى حماسته في الكتابة عن نيتشه.
ويمكن أن نستشهد ببعض الآراء في هذا المجال وهي شهادات ممن سرى هذا التأثير فيهم في بداية حماس بدوي الكبير لنيتشه: يقول محمود أمين العالم «إن الدكتور بدوي كان يمثل ذات يوم دعوة للخلاص لطائفة من المثقفين أثناء الحرب العالمية الثانية. وكنت واحداً من السائرين في طريقه. كنا نلتهم كلماته كأنها الخبز المقدس ونعاني أفكاره معاناة حادة جادة... وأذكر أنني ذهبت الى الجامعة أول ما ذهبت محملاً بالنموذج الأسطوري الذي بشر به نيتشه (الإنسان الأعلى)... ولهذا كان عبد الرحمن بدوي أول تجسيد أمام عيني لهذا النموذج، كان تجسيداً لإرادة القوة، لأخلاق السادة، ولهذا الحبل المنصوب فوق الهاوية الذي يسير عليه الإنسان نحو الإنسان الأعلى» (38).
وكذلك يمكن أن نشير الى الشهادتين الهامتين من تلميذيه الدكتور أنور عبد الملك «كيف تكون الفلسفة؟» واسماعيل المهدوي «الشاهد الأكبر على مذابح الفلسفة» اللتان توضحان هذا التأثير (*).
ويدلي الشاعر المبدع محمد عفيفي مطر بشهادة «من مقصورة المتفرجين» يقول: «لم يكن يعلم هذا المراهق الريفي أن لحظة من لحظات الزلزال الروحي قد ألقت بين يديه بكتاب قديم مهلهل سوف يعصف به ويفتح أمامه باب الفطام عن كل ما قرأ ووعى، ويرمي بين جوانحه بجمرة متوقدة يصدق عليها قول صاحبها «احرق واحترق... تلك كانت حياتي». كان الكتاب هو «نيتشه» لمؤلفه ـ وأستاذي فيما بعد ـ عبد الرحمن بدوي» (39). ونجد نفس التأثير الذي مارسه بدوي على عدد كبير من المثقفين في شهادة ماهر شفيق فريد عن تأثير بدوي عليه في مرحلة مبكرة من حياته في قوله: «كان كل كتاب جديد، مؤلفاً أو مترجماً، يقرؤه المرء لبدوي جديداً وتجربة تهز من الأعماق... كان عبد الرحمن بدوي هو الذي قدم إليّ نداءات نيتشه النارية، عيشوا في خطر. ابنوا مدنكم قرب بركان فيزوف. أرسلو سفنكم الى بحار مجهولة»، «لهذا نظل ـ مع كل التحفظات، وهي تحفظات مهمة وأساسية ـ مدينين له الى آخر لحظة في حياتنا» (40).
وقبل أن نواصل حديثنا نشير الى ملاحظة هامة بخصوص الشهادات السابقة والتأثير القوي الذي مارسته أفكار بدوي عن نيتشه، وهو تأثير تم في مرحلة مبكرة في حياة هؤلاء، وسرعان ما تحول كثير منهم عن هذا الاتجاه الى دراسات أكثر تعمقاً أو الى التفرغ التام للإبداع الشعري أو الى مواقف فلسفية مضادة تماماً لهذا الاتجاه الوجودي النيتشوي الذي دعا اليه بدوي.
ان الغاية التي يتغياها بدوي كما تتضح في تصديره لكتاب نيتشه هي تأكيد ضرورة الثورة الروحية. ان الغاية الوطنية التي كان يهدف اليها قبيل الحرب العالمية الثانية، والتي عبر عنها في كتاباته السياسية في جريدة مصر الفتاة، هي الاستقلال والثورة على كل القديم. فليس من شك أن هذا الوطن في أشد الحاجة الى الثورة الروحية على ما ألِف من قيم، وما اصطلح عليه حتى الآن من أوضاع؛ في أشد الحاجة الى أن يطرح مكانها نظرة أخرى، كلها خصب، وكلها قوة، وكلها حياة؛ وفيها تعبير واضح عن كل ما يخالج ضميره من مطامح نحو السمو ونحو العلاء؛ وشعور حي نابض بالنزوع الى تطور روحي هائل تتصاعد فيه قواه مندفعة متوترة.