أنت هنا

قراءة كتاب نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

كتاب " نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة " ، تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

وإذاً توقفنا أمام تصدير بدوي ـ وهو تصدير ذو دلالة ـ لظهرت لنا دلالة اختيار نيتشه، وهي دلالة سياسية أيديولوجية، تهدف الى ما يسميه بدوي: «القيام بثورة روحية اقتضتها ظروف الحرب، فإذا كانت الحرب الماضية (العالمية الأولى) قد هيأت الفرصة لهذا الوطن كي يثور ثورته السياسية، فلعل هذه الحرب الحاضرة أن تكون فرصة تدفعه الى القيام بثورته الروحية». وبدوي ليس بعيداً عن الأحداث السياسية، فهو مسؤول العلاقات الخارجية بحزب (مصر الفتاة). يستشعر خطر الحرب المقبلة ويكتب عنها ويراها تكشف عورات المذاهب السياسية المختلفة المخالفة. وإذا تساءلنا لماذا نيتشه بالتحديد؟ قد يخطر على الذهن تشابه في التكوين بين المفكر العربي والفيلسوف الألماني. وإذا كان ذلك كذلك فما هي أوجه التشابه بينهما؟ وما هي مكانة نيتشه في فكر بدوي؟ علينا أن نشير ـ قبل تحليل ما بينهما من تشابه انطلاقاً من كتاب بدوي عن نيتشه ـ الى ضرورة أن نميز بين عرض بدوي المبكر للفيلسوف الألماني في كتابه الأول، وبين الإشارات التي ذكرها عنه في كتاباته ودراساته التالية: وهي إشارات قليلة موجزة ولكنها ذات توجه أساسي في تكوين بدوي الفلسفي تختلف تماماً عما في كتابه الأول، الذي نعده أقرب الى الثقافة السياسية التي يتبناها ويدعو اليها. وإن كان لا يخلو ـ كما سنرى ـ من بعض الأفكار الفلسفية التي شغل بها المفكر العربي في فترة إبداعه الأولى.

يستهل بدوي كتابه بقصيدة نيتشه التي تعبر عن دورة التطور؛ دقات الساعة الاثنتا عشرة؛ وأي شيء أقدر من الساعة على التعبير عن الحياة والكشف عن نسيجها العضوي الحي؟ ذلك لأنها رمز الزمان ومقياسه. إن الزمان موضوع اهتمام بدوي الأساسي، هو السطور الأولى يفتتحها كتابه عن نيتشه «فيلسوف الحياة، فليس في وسع المرء أن يصف حياة الفرد وصفاً دقيقاً، إلا إذا استعان بالزمان في وصفه، فصور هذه الحياة على شكل تطور، له أدواره ولكل دور طابعه ورسمه» (41). ومذهب بدوي الذي أعلن عنه وعرف به هو الزمان الوجودي؛ فالزمان هو أساس فلسفته التي عرف بها وعرفت عنه. يصف بدوي حياة نيتشه من خلال الزمان، ونيتشه ممن يجمعون بين حياتهم وفكرهم في نسيج واحد، الذين يحيون أفكارهم قبل أن تنتجها عقولهم وقبل أن يعرضوها على الناس.

وإذا كانت الساعة في دقتها الأولى تدعونا الى دراسة نيتشه «الإنسان». فإن وصف بدوي له يستحق التحليل، ففي كثير من فقرات الكتاب التي يعرض فيها بدوي أفكار وأقوال نيتشه يتوقف منبهاً أن نيتشه ـ وهو يكتب هذا الكلام ـ لم يكن يصف غير نفسه، ولا يستوحي غير طبيعته أو يقول ما أصدق هذا الكلام بالنسبة لنيتشه (42). وأشعر ـ وقد يوافقني القارىء في ذلك ـ أن كثيراً من هذه العبارات تصدق بنفس القدر على بدوي نفسه. يقول وهو يتحدث عن نوعين من الوحدة تفرق بينهما اللغة الألمانية: «الوحدة المؤلمة التي يجد المرء فيها نفسه، والاعتزال الاختياري، وهو الانسحاب الإرادي، هو وحده الذي نعنيه ـ هنا ـ حين نتحدث عن الوحدة عند المفكرين وأصحاب الفن. فهو وحده الشرط الجوهري لكل إنتاج وكل خلق فكري أو فني» (43). لن نتسرع لنعقب بأن بدوي هنا وهو يصف نيتشه إنما يصف نفسه ويفسر لنا غربته أو انسحابه الاختياري، بل علينا أن نواصل وصفه للوحدة عند نيتشه. وهو يفعل ذلك باستخدام كلمات نيتشه في أحد خطاباته الذي يقول فيه:

«أشعر بأنه قضي عليّ بالوحدة حتى أصبحت حصني الحصين. وليس لي في هذا الآن أي اختيار. وإن ما يدعوني الى الاستمرار في الحياة من واجب ضخم سام لا مثيل له، يدعوني أيضاً الى تجنب الناس وعدم التعلق بشخص ما من الأشخاص» (44). سوف نتخذ من تعليق بدوي على نيتشه تعليقاً عليهما معاً، يقول بدوي: «ليتخذ من الوحدة وعدم إقبال الناس عليه وحبهم له دليلاً على سموه، ومجالاً للزهو والكبرياء» (45).

«يشعر نيتشه بذاته (وهذا ما ينطبق على بدوي نفسه) شعوراً مفرطاً قوياً، ويعتد بنفسه اعتداداً كبيراً، حتى أصبح يعتقد أنه قادر على التأثير في العالم كله تأثيراً كبيراً حاسماً» (46). إن الطابع الرئيسي السائد في طبيعة نيتشه ـ والتي يلخصها أحسن تلخيص ـ هو الامتياز الخارق، الممتلىء شعوراً بذاته، المتفاني في الإخلاص لرسالته، «امتياز يجعل من حياته حياة غريبة شاذة لا يكاد تاريخ الإنسان الروحي أن يجد لها مثيلاً ولا قريناً؛ ومن وجوده مأساة هائلة رائعة... وبطلها شخص مفرد احتملها كلها وحده، وكانت الوحدة وطنه وقصره الشامخ المخيف! وامتلاء يحمله على الاستقلال المطلق، والجرأة التي تكاد تبلغ حد الوقاحة، وفرض الإرادة والشخصية فرضاً يشعر الناس بإزائها شعورهم وهم في جوار بناء ضخم يتحدى السماء، فيبتعدون عنه خائفين من أن ينقض عليهم، ويحيا هو فريداً ليس بجوراه إنسان» (47).

يظهر أثر كتابات بدوي السياسية في كثير من القوى السياسية المصرية في فترة الأربعينيات من القرن الماضي خاصة على قادة تنظيم الضباط الأحرار ورموز الوطنية المصرية مثل عزيز المصري، الذي قرأ مقالات بدوي في «مصر الفتاة» عن النازية والفاشستية. «ولما كان معجباً بالألمان ويحسن شيئاً من اللغة الألمانية ـ فيما يقول بدوي عنه ـ فقد انصب الحديث بينهما حين التقيا عن الألمان وهتلر والثقافة الألمانية». وهو حين يتحدث عن أصحاب الفضل في الإفراج عنه بعد اعتقاله في ليبيا، يذكر الرئيس أنور السادات والدكتور محمد حسن الزيات وزير الخارجية. وكان السادات، ممن التقى بهم عند الفريق عزيز المصري، شديد الإعجاب بكتاب بدوي «نيتشه» . «وقد صرح فيما بعد في خطبة أقامها للأدباء في الإسكندرية، إنه متأثر تمام التأثر بكتابي هذا «نيتشه» . وظل مؤمناً بفلسفة القوة التي دعا إليها نيتشه وعرفها هو من كتابي الى أن انتصر في حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973». يقول بدوي عن أثر هذا الكتاب: «من الفئات التي أقبلت بشدة على قراءة هذا الكتاب فئة ضباط الجيش الذين كانوا ذوي تطلعات سياسية ومنهم جمال عبد الناصر وأنور السادات كما صرحا مراراً، لكن أشد هؤلاء الضباط حماسة للكتاب كان الضابط أحمد عبد العزيز الذي استشهد في فلسطين 1948، والذي راح في اللقاء الوحيد الذي جمعه ببدوي في بيته بمصر الجديدة يردد له عن ظهر قلب كثير من الجمل الحماسية من الكتاب».

الصفحات