أنت هنا

قراءة كتاب نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة

كتاب " نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة " ، تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

نيتشه والتحليل النفسي (*)

د. عبد الغفار مكاوي (**)

هذه قراءة لبعض نصوص نيتشه (1844/1900) «النفسية». ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئاً غير قليل من الشك والحيرة. وربما ذكرت القارىء بالجدل الطويل الذي دار وما زال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف «هكذا تكلم زرادشت» و «أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية»، صاحب الأسلوب المتوهج بالصور الحية والرؤى العميقة المخيفة، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق، ذلك الذي «تفلسف بالمطرقة» ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها ـ على حد قوله ـ في دم القلب، هل هو شاعر أم فيلسوف؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينته بأن نضيف إليه مشكلة جديدة فنزعم أنه عالم نفس؟

لا شك عندي في أن نيتشه مفكر وجد في التفكير وحده كل نشوته وعذابه، وبهجته وألمه، بل أن التفكير المجرد ليبلغ عند تلك القمة التي يصبح فيها فكراً غنياً بالصور الحية التي تليق «بفيلسوف الحياة». ويكفي أن نطلّع على فقرة واحدة مما كتب، وأن نتذكر العبارة التي قالها في كتابه الأكبر «إرادة القوة» الذي لم يقدّر له أن يتمه وجُمع ونُشر بعد موته: «إن الفكر هو أقوى شيء نجده في كل مستويات الحياة»، والعبارة التي صرح بها في إحدى كتاباته المتأخرة: «أن التفكير المجرد لدى الكثيرين عناء وشقاء، أما عندي فهو الأيام المواتية عيد ونشوة» وأخيراً هذه العبارة التي دونها في أوراقه التي عثر عليها بعد موته وكأنه كان يتنبأ بالغيب ويرد على الأجيال التي شعر أنها لن تفهمه ولن تنصفه: «إرادة القوة، كتاب هدفه التفكير، ولا شيء غير التفكير».

«إرادة القوة»، إذاً، شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس. إنه قول ميتافيزيقي يتحدث عن العالم ككل ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء. ويصدق الشيء نفسه عن أقواله الكبرى ـ التي تعرضت دائماً لسوء الفهم ـ عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة ـ أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة ـ وعودة الشبيه الأبدية. فهي أفكار فلسفية وميتافزيقية قبل كل شيء، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأي معظم الدارسين (وبخاصة هايدغر وتلاميذه) أشد الميتافيزيقين تطرفاً في تاريخ التفكير الغربي، بل أنه في رأيهم منتهى غايتها وآخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.

بيد أن هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال إنه «خبير بالنفس» لم يتوقف عن سبر أغوارها، وأنه كما قال في كتابه «إنساني، إنساني جداً» قد استفاد من «مزايا الملاحظة النفسية» وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها وينطق بلسان «السيكولوجي» حين ينطق عن حاله. يقول على سبيل المثال في كتابه «نيتشه ضد فاغنر»: «كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة الى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقة عليها...» ولكن ما حاجتنا للجوء الى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس وتعمقه في طبقاتها الدفينة ومتاهاتها المظلمة؟ إن المطلّع على هذه الكتابات ابتداء من «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى» حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه ووجهها الى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه؛ كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة ونظراته النفسية الثاقبة، بل أنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار، وأنه راد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي ـ كما سنرى بعد قليل ـ وأثر فيها جميعاً بحدوسه وخواطره الملهمة تأثيراً مباشراً أو غير مباشر، وصل في بعض الأحيان إلى حد استباق النظريات، كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية، بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلاً مع كلمة الإعلاء التي تتكرر في كتبه أكثر من اثنتي عشرة مرة..

الصفحات