كتاب " نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة " ، تأليف د. أحمد عبد الحليم عطية ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نيتشه وجذورها ما بعد الحداثة
يريد بدوي عن وعي أو لاوعي إقامة علاقة بين أثر نيتشه في هتلر وأثر كتابه عن نيتشه في الضباط الأحرار. وسواء كان هذا هدفه أو لم يكن هو على وعي بذلك فإن توجه الضباط الأحرار في فترة القلق والحيرة التي تمر بها مصر قبيل 1952، والبحث عن سبيل آخر غير الديموقراطية والتحول عن الليبرالية السائدة حينذاك الى الفاشية، يبطن لدى بدوي تفسيراً سياسياً لفلسفة نيتشه أو على الأقل إمكانية توظيف فلسفته توظيفاً سياسياً.
ولسنا في حاجة الى تأكيد ما في هذه القراءة من عدم مشروعية في الربط بين فلسفة نيتشه والنازية.
ولم تقتصر كتاباته عن نيتشه على هذا العمل وهو أول أعماله وكانت دوافع كتابته كما أوضحنا دوافع سياسية، إلاّ أننا نجد أن اهتمام بدوي بالفيلسوف الألماني لم يتوقف واستمر في دراساته الفلسفية الأخرى.
علينا، إذاً، أن نعرض موقف بدوي من نيتشه، ليس من خلال «خلاصة الفكر الأوروبي» فقط بل أيضاً في كتابات بدوي الأخرى حيث نجد صورة نيتشه قد ظهرت أيضاً في «الحور والنور» كما ظهرت في نيتشه والشعر، في الشعر الأوروبي المعاصر باعتباره صورة حية نابضة قلقة متوترة تساعدنا في إبداع نظرة فلسفية متعمقة أطلق عليها بدوي اسم «الزمان الوجودي». وكان نيتشه ـ في هذه النظرة ـ خطوة فلسفية ممهدة لما يذهب اليه بدوي.
في رسالته للماجستير ـ التي نوقشت في تشرين الثاني/نوفمبر 1941 ـ يحلل بدوي مشكلة الموت وينكر على المسيحية إدراك الموت إدراكاً حقيقياً، ذلك أن نظرتها للموت بوصفه شراً جعلتها تنظر إليه على أنه مضاد للحياة، ولكي تكون النظرة للموت صحيحة يجب أن نجعلالموت جزءاً من الحياة، وهذا ما فعلته فلسفة الحياة؛ خصوصاً عند أشهر ممثليها من الألمان، نعني نيتشه وزيمل. فقد قال نيتشه: «حذار أن تقول إن الموت مضاد للحياة» (48). إن نيتشه هنا يمثل خطوة في تفكير بدوي في مشكلة الموت.
ونفس الأمر نجده في رسالة بدوي للدكتوراه عن (الزمان الوجودي) ـ وهو ما يمثل بالنسبة له إنجازه الفلسفي ـ ففي القسم الثاني منها يتناول بدوي الوجود الناقص مؤكداً «لا وجود إلا بالزمان، والزمان سر التناهي، فكل وجود لفناء». فالوجود نوعان: فيزيائي وذاتي؛ الثاني وجود الذات المفردة، والأول كل ما عدا الذات، سواء أكان ذاتاً واعية أم كان أشياء. ويرى أن الفكر الحديث صراع بين الذات والموضوع من أجل تحرر الأول من الثاني؛ صراع بلغ أوجه في المثالية الألمانية التي كاد أن يتم على يديها هذا التحرر. ولكنها ـ بدلاً من تأكيد الذات الفردية ـ استبدلت بها ذاتاً كلية مطلقة كما عند هيغل، وسار كيركغارد خطوة أخرى في هذا السبيل، ولكن نحو توكيد الذات الفردية وتلاه نيتشه ـ وهو ما يهمنا ـ فتقدم في طريق الذاتية المفردة بسرعة أكبر. ولكنهما لم ينتهيا ـ في الواقع ـ الى تأكيد الذات المفردة بالمعنى الوجودي الخالص، نظراً لتأثر كليهما بنزعات غير وجودية. فالأول سادت تفكيره نزعة دينية مما جعل نظرته مشوبة بصبغة تقويمية ظاهرة منذ البداية. وطابع التقويم هذا نجده كذلك عند نيتشه وبشكل أكثر صراحة ووضوحاً. فإنه حينما يتحدث عن الذات المفردة، إنما يفكر دائماً في الإنسان الأعلى، ولذا غلب عليه هذا التفكير، فلم يظفر، أو لم يأتنا، بنظرة في وجود الذات المفردة من حيث طبيعتها في الوجود، لا من حيث ما يجب أن تفعله لتبلغ كمالها وتحقق إعلاءها بذاتها فوق بقية الذوات الأخرى. فضلاً عن هذا فإن كليهما لم يُقم مذهباً واضح المعالم على أساس وجود الذات المفردة» (49). وهو ما سعى إليه بدوي في عمله هذا.
يمثل نيتشه، إذاً، خطوة في اتجاه بدوي الفلسفي، يضع الأساس ويكمل بدوي البناء. نيتشه يلهم وبدوي يبدع، إلا أن إلهام نيتشه ديونزيوسي وإبداع بدوي أبولوني، هنا تختلف لغة بدوي التحليلية النقدية عن لغته في كتابه عن نيتشه التي يختلط فيها الأدب بالفلسفة حتى نظنه شاعراً يهيم حماساً بموضوعه. يصيغ بدوي كلمات نيتشه المتفجرة في لغة منظومة وعباراته التي تراقص التأويل الى مقولات تخاطب الفهم.
يقدم لنا بدوي في القسم الثاني من كتابه «الزمان الوجودي» لوحة مقولات جديدة؛ مقولات العاطفة ومقولات الإرادة، ومنها (الخطر). فالمقولة الأولى للإرادة هي الخطر أو المخاطرة: «الخطر بوصفه صفة للوجود، والمخاطرة بوصفها فعلاً لمن يتعلق بهذه الصفة. وهذا ما أدركه نيتشه تمام الإدراك فجعل الإرادة في أصلها إرادة الخطر؛ وعنده أن الحياة ـ بوجه عام ـ معناها الوجود في خطر... ولا يقتصر نيتشه على توكيد ضرورة الخطر بالنسبة للإرادة وحدها. بل وأيضاً بالنسبة الى المعرفة» (50). وينطلق بدوي من نيتشه الى تحليل مقولة الخطر تحليلاً وجودياً في إطار مذهبه الفلسفي الوجودي.
يظهر لنا مما سبق وجود عنصرين أساسيين في تعامل بدوي مع نيتشه. الأول هو العنصر الديونيزي أو نيتشه الشاعر الداعية صاحب الرسالة التي تبشر بالإنسان المتفوق الممتاز الذي وجد فيه بدوي تعبيراً عن ذاته في كتابه عن نيتشه. والثاني هو العنصر الأبولوني أو تعامل بدوي الفلسفي مع أفكار نيتشه من أجل صياغة مذهبه الوجودي الذي ظهر في «الزمان الوجودي» . والذي توقف اهتمامه به في كتابه «دراسات في الفلسفة الوجودية» الذي يقدم فيه بدوي خلاصة مذهبه الوجودي، والذي لم يخصص فيه دراسة عن فيلسوفه الذي أصدر عنه أول كتبه. معنى ذلك ـ بالنسبة لنا ـ أن هناك مجالين أراد من خلالهما بدوي تحقيق ذاته وتأكيد امتيازه. الأول: هو الثورة الروحية أو الدعوة السياسية، والثاني: هو الفكر وتأسيس المذهب الفلسفي. وكان نيتشه في كلا المجالين هو نقطة الانطلاق.