أنت هنا

قراءة كتاب في مهب العاصفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في مهب العاصفة

في مهب العاصفة

كتاب " في مهب العاصفة " ، تأليف الفضل شلق ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

ملائكة الحرب وأوهام السلام

تعود من إجازة أسبوعين في بلد أوروبي. كانت الاجازة زيارة للابن وعائلته، اختار العمل في بلد أوروبي بانتظار قيام الدولة، بالأحرى تخفيف قبضة العصابات عن الدولة اللبنانية. لا تستطيع الاطمئنان إلى وجود أولادك في لبنان في غياب حد أدنى من الاستقرار الذي لا يتوفر دون مشاركة. المشاركة لا تتحقق عندما تقبض على البلد طبقة مالية سياسية، تحكم، تتصارع وتوزع الادوار على المتصارعين على السلطة؛ دون أن يعرف أحد ما هي حقيقة قضايا الصراع. والكل يعرف ان ما يقوله السياسيون لا يعبر عن حقيقة القضايا، بل هو للتعمية ولإثارة مشاعر الخوف والتخويف لدى كل فريق طائفي في سبيل مصادرة الطوائف وتسييرها.

تقرر زيارة الشريط الحدودي، مع بعض الاصدقاء، لمناسبة الذكرى الأولى لانتهاء حرب تموز. أن ترى غير ما تسمع. يجب ان ترى كي تشعر بالوقائع. يجب ان لا تترك الامور لبعض الحواس دون أخرى. تنطلق السيارة من العاصمة باتجاه الناقورة، ثم تأخذ طريق قرى مثل عيتا الشعب، يارون، مارون الراس، الطيبة، العديسة، سهل الدردارة ومرجعيون وصولاً إلى جزين بعد ست ساعات من المشقة في السيارة.

تشعر وانت تترك العاصمة أنّك تترك لبنان. بالطبع ينحدر مستوى العمران كلما ابتعدت عن العاصمة. لكنك عندما تنطلق من الناقورة عبر القرى الحدودية تشعر أنّك في منطقة منسية. منطقة خرجت من وعي جزء كبير من اللبنانيين. تستغرب ان تراهم يعيشون حياة عادية. في يوم صيفي حار لا تتوقع ان ترى الكثيرين يتنزهون على قارعة الطريق. ما تشاهده العين مباشرة هو ثلاثة انواع من النشاط؛ في بعض القرى ترى بعض مصاطب البيوت وقد جمعت فوقها العائلات تعمل في «شك» الدخان، وهو عمل مضن وشاق يستغرق الوقت من الفجر إلى المغرب. زالت هذه الزراعة من القويطع في الكورة. حيث مسقط راس كاتب هذه السطور، منذ بداية الحرب الاهلية الماضية.

النشاط الاقتصادي الثاني هو الدكاكين المفتوحة. قليلة جداً هي المقاهي حيث يمضي النهار ناس يدخنون الاركيلة أو يلعبون الكوتشينا أو الدومينو أو طاولة الزهر دون ان يؤدوا عملاً منتجاً. والنشاط الثالث هو صب الباطون، في معظم القرى، لبناء ما تهدم. وما تهدم كثير يبعث على الانقباض والحزن. ما يحزنك اكثر من أي شيء آخر هو غياب الدولة. من يقوم بإعمار المنازل هم أشقاء من بلدان عربية اعتبرنا اهلها أجانب منذ قيام الكيان اللبناني. لكننا رحبنا بتبرعاتهم عندما اعلنت الدولة غداة الحرب، تخليها عن واجباتها تجاه شعبها، واستنكافها عن الإعمار؛ ورحبت بالغير للقيام بذلك على أساس مبدأ التبني. فكل من يتبنى مشروع اعمار قرية أو جسر أو طريق مرحب به شرط ان لا يكون الدولة اللبنانية.

على طول قسم كبير من الطريق ترى الشريط الفاصل بين لبنان والارض الفلسطينية المحتلة. حيث لا ترى الشريط الفاصل يمكنك التمييز بين الارضيْن بوسائل اخرى. ترى، كما يقول الزميل المرافق، الفرق بين أرض خضراء مشغولة وارض جرداء مهملة. يقول الزميل نفسه إن الإسرائيليين في بداية اغتصاب الارض الفلسطينية بدأوا بتنمية الاطراف، ذكّرنا بما كان يسمى الكيبوتز. بعض اهم معارضي السياسة الاسرائيلية الرافضة للسلام هم من اليهود الذين نشأوا في الكيبوتزات، من أمثال نعوم تشومسكي.

في بعض أجزاء الطريق الطويلة، خاصة بين سهل الدردارة (الواقع بين الخيام ومرجعيون)، تشعر ان الطريق اصبحت ضيقة جداً، وكأنها مقطوعة. تفكر بمعنى انقطاع منطقة كبيرة عن الوطن: هل هو صادر عن اهل المنطقة أم عن سياسة الدولة. إذا كنت من القائلين بأهمية السياسة، بمعناها الأسمى، أي بمعنى إدارة شؤون المجتمع وليس فقط بمعنى الصراع على السلطة، تدرك ان الانقطاع سياسة مقصودة. يعتصر قلبك وانت تفكر ما الفرق بيننا في لبنان وبين اسرائيل: لا تجد فرقاً سوى في قيام الدولة عندهم وتغيّبها عن مهامها عندنا. الدولة كأطار ناظم للمجتمع هي الغائبة عندنا؛ والسياسة كنشاط جوهره الشأن الاقتصادي هي الغائبة عن الوعي لدينا.

تسوق سيارتك، ترى الارض المحتلة عن يمينك والارض اللبنانية عن يسارك. تتداخل الحدود تفكر بانجازات المقاومة. تفخر بها وتفرح. لكن الكآبة تعود إلى نفسك وانت ترى غلبة الفقر المدقع. بعض الفيلات التي بناها مهاجرون بأسلوب معماري معين تقلب الرؤية لدى البعض. فهناك من يتحدث كذباً عن الراحة المادية لدى أهل الجنوب، وعن اكتفاء المنطقة بخدمات البنى التحتية. لا تشك لحظة في ان لدى كل فيلا مولد كهرباء وبئر ماء خاصين بها، فالطبقة الرفيعة ماديا مضطرة للتغاير عن مجتمعها أو للعزلة عنه.

تهبط في طريق العودة من جزين تمر بموقع نسيه معظم الناس. في كفرفالوس كان الشهيد رفيق الحريري يبني مجمعا ثقافيا ضخما منذ 1978 . جامعة تديرها إدارة الجامعة اليسوعية. مستشفى مع كلية تمريض تديرها إدارة الجامعة الأميركية في بيروت. ثانوية للمقاصد. مدارس مهنية بالتعاون في إدارتها مع الفرنسيين. مركز ثقافي للمحاضرات وغيرها. محطة توليد كهرباء، محطة لمياه الشفة، محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي. بعض هذه المنشآت انتهى انشاؤها وبدأت تعلم التلاميذ وتداوي المرضى قبل الاجتياح الاسرائيلي في 1982 . دخلت اسرائيل وخربت المشروع. ترى خراب المشروع وتدمع عيناك. تتذكر كلام السيد حسن نصر الله في اليوم الفائت: انهم لا يريدون لنا ان نتعلم، كي نبقى مهزومين.

يحل عليك التعب في طريق العودة. تغمض عينيك وانت تتساءل: ألم يكن خطأ فصل المقاومة المسلحة عن المقاومة بالاعمار والنهوض الاقتصادي في التسعينات؟ سؤال مؤلم لمن شارك في المسؤوليات الرسمية آنذاك. نتساءل: كيف نتوصل إلى السلام دون بناء الدولة؟ وكيف تبنى الدولة دون المقاومة بجميع أشكالها؟ وكيف لا يسمى الامر مقاومة (بجميع اشكالها) ونحن أمة تتعرض للحروب العدوانية الواحدة تلو الأخرى، وللغزو وللاحتلال؟ تجاوز العالم كله مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني، ما عدانا نحن. لكننا لم نعد قادرين، بسبب تشتيت الوعي، على النطق بكلمة «نحن» ومن ثمة تحديدها. العروبة، كما يقال، يجب إعادة النظر بها كي تصير «حضارية»، اما تغييب جزء كبير من اللبنانيين عن وعينا، وعن الدولة، وعن الحق بالحياة الكريمة، ووصمهم بثقافة الموت، فهو امر لا يعتبر بربرياً.

تفتح عينيك على مداخل العاصمة، تدخل الرملة البيضاء، يسألك زميلك: الم يفلش هذا الزفت على طرقات هذه المنطقة حديثا. تجيبه يفلش الاسفلت هنا كل عام. في هذا الجواب ألف اجابة.

18/8/2007

الصفحات