كتاب " مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني
II
يحتل مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي موقعاً مركزياً في أبحاثي. وأول مرة استخدمت فيها هذا المفهوم، في مقال نشر في مجلة الطريق في العدد الثامن من سنة 1968، بل في رسالة الدكتوراه التي ناقشتها في فرنسا في شهر أيار من سنة 1967 ولم أنشرها حتى الآن، أشرت بوضوح إلى أنني أستخدم هذا المفهوم كفرضية نظرية يصح عليها ما يصح على أي فرضية علمية تستلزم، في تحقيقها، اختباراً تاريخياً يؤكد صحتها أو يقوّمها. ودعوت القارىء إلى يقظة فكرية ضرورية لقراءة ما أكتب، حتى أستثير عنده النقد كما أستثيره عندي. ولقد فرض عليّ منطق البحث نفسه ضرورة اللجوء إلى هذه الفرضية كي أرى بعين الماركسية ومفاهيمها النظرية إلى واقع مجتمعاتنا العربية، من حيث هي جزء من المجتمعات المستعمرة سابقاً، من موقع نظر هذه المجتمعات إلى ذاتها، في علاقة تبعيتها البنيوية بالامبريالية، وليس من موقع نظر المجتمعات الامبريالية إليها. كان عليّ إذن، أن أحدث تغييراً في زاوية النظر في مجتمعاتنا، بل أن أحدث هذا التغيير في زاوية النظر في تلك العلاقة من التبعية البنيوية بالامبريالية، فأنتقل من زاوية نظر الطرف المسيطر في هذه العلاقة ـ وهو طرف الامبريالية، أو طرف التطور الامبريالي للرأسمالية ـ إلى زاوية نظر الطرف التبعي فيها، وهو طرف مجتمعاتنا، أو طرف التطور الذي سميته التطور الكولونيالي للرأسمالية. وبإحداث هذا التغيير في زاوية النظر في واقعنا التاريخي، كان عليّ أيضاً أن أحدث التغيير نفسه في النظر في المفاهيم الماركسية التي لا تتكون إلّا بتمييزها. وكنت وما زلت أحاول، إذن، القيام بعمليتين مترابطتين في عملية واحدة: عملية إنتاج المعرفة العلمية بآلية التطور الكولونيالي للرأسمالية في مجتمعاتنا العربية، وبآلية الصراع الطبقي الخاص بهذا التطور، أي بتطور هذا الشكل التاريخي المميز من الرأسمالية، من حيث هي آلية حركة التحرر الوطني فيه، وعملية إنتاج أدوات إنتاج هذه المعرفة. وكان من الطبيعي جداً أن تغلب العملية الثانية هذه على العملية الأولى في ترابط الاثنتين وتمفصلهما في عملية واحدة معقدة يمكن القول عنها:إنها عملية إنتاج النظرية الماركسية، من حيث هي، بالضبط، نظرية سيرورة التحرر الوطني، بأدوات النظرية الماركسية نفسها. فلا ننسى، بهذا الصدد، أن عملية إنتاج النظرية الماركسية هي عملية مستمرة باستمرار الحركة الثورية نفسها، من حيث هي حركة تغيير للعالم وانتقال به من الرأسمالية إلى الاشتراكية. إنها، بتعبير آخر، عملية إعادة إنتاجها متجددة بتجدد الشروط التاريخية الخاصة بتحقق السيرورة الثورية.
إلّا أن غلبة العملية الثانية على الأولى ولّدت عند بعض القراء التباساً وجد تعبيره في أشكال شتى؛ منها اتهامي بالتجريد، مثلاً، وبأن اللغة التي بها أكتب هي لغة صعبة وكثيراً ما تكون شكلية، ومنها أيضاً أنني أقيم بين المفاهيم علاقات استخلاصية محكمة البناء في عمارة منطقية صارمة لا ينعكس فيها الواقع التجريبي بغنى حياته وتفاصيله إلّا انعكاساً باهتاً، أو أنني لا أقيم وزناً كبيراً للتاريخ ولتسلسل الأحداث فيه.
لا أريد أن أدفع عني مثل هذا الاتهام أو غيره، بل أريد في هذا المجال أن أؤكد من جديد على طبيعة الموضوع الذي أعالج. فبتقديري أن كثيراً من النقد الذي قرأت أو سمعت قد أخطأ موضوعه. ولا يدهشني هذا الأمر كثيراً، بل أرى فيه دلالة تتخطّى أصحاب النقد وتتخطى ما كتبت أيضاً، لتطال بنية الفكر العربي المعاصر، ولا سيما في تياراته الغالبة. حين يأخذ البعض على الفكر تماسك بنائه الداخلي وصرامة منطقه وحركة استخلاص المفاهيم النظرية منه وانتظامها في شبكة من العلاقات المحكمة، فإنما هو يأخذ عليه هذا من موقع الجهل بطبيعة الفكر العلمي ونشاطه النظري، أو في أحسن الحالات، من موقع انتمائه الضمني أو الصريح إلى فكر تجريبي أو وضعي يرى في المعرفة نقلاً تسجيلياً للواقع التجريبي، بفوضى تفاصيله وحمّى أحداثه، إلى اللغة العادية، فيهمل دور المفاهيم النظرية الضرورية لإنتاج المعرفة، التي بها يشتغل الفكر موضوعه الذي هو معرفة سابقة. والأدوات هذه ليس جاهزة، بل يجب إنتاجها، أو إعادة إنتاجها، كما هو أمر المفاهيم النظرية الماركسية. إن عملية إنتاج أدوات إنتاج المعرفة هي، بتعبير أوضح، عملية لا وجود لها بالنسبة إلى هذا الفكر التجريبي. من هنا أتى ذلك الالتباس الذي أشرت إليه سابقاً، في فهم محاولتي النظرية. فالفكر هذا، بألوانه المختلفة وأشكاله المتعددة، وهي كثيرة لو أحصيناها، يكاد يكون الفكر الغالب في الفكر العربي المعاصر. فأولى مهمات هذا الفكر إذن، أن يقوم بما سميته، في مقدمة كتابي «في التناقض» ثورة كانطية جديدة يعيد النظر فيها بأدوات إنتاج المعرفة العلمية التي عليه أن ينتجها، بالارتباط العضوي بالحركة الثورية، وليس بمعزل عنها، من حيث معرفة السيرورة التاريخية لحركة التحرر الوطنية وقوانينها المتميزة في مجتمعاتنا العربية. والمهمة هذه تتقدم فيه كل مهمة أخرى، لأن نوع المعرفة وطابعها يتحددان، في نهاية التحليل، بأدوات إنتاجها. وما أدوات هذا الإنتاج المعرفي سوى المفاهيم النظرية الماركسية. بإعادة إنتاجها في تمييز كونيتها، تبدأ صيرورة الفكر العربي فكراً علمياً. لهذا السبب بالذات كان لبحثي طابع «المقدمات النظرية» التي تهيىء لإنتاج المعرفة العلمية. وهي في ثلاثة أجزاء، منها اثنان: الأول «في التناقض»، والثاني «في نمط الإنتاج الكولونيالي»، أما الثالث «في تمرحل التاريخ»، فما زلت أشتغله.
والطريف في الأمر هو أن الجزء الأول كان حظه من النقد أقل بكثير من حظ الثاني، مع أن هذا يستند، في بنائه النظري، إلى ذاك ولا يفهم إلّا به. فنظرية التناقض هي التي تحكم أعمالي الفكرية بكاملها. فمنها يبدأ النقد، إن كان للنقد أن يكون مثمراً. ويظل النقد عقيماً إن اكتفى بالنظر في النتائج دون المنطلقات، فقطعها عن أسسها ولم ير إلى الحركة التي فيها تولدت. وفي هذا تأكيد على صحة ما أتى في الفقرة السابقة.