كتاب " مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني " ، تأليف مهدي عامل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني
وربما أتى التعقد من منطق البحث الذي اتبعت. فمنطق البحث غير منطق الدراسة المتكاملة: إن الثاني منطق عرض ينطلق من نهاية ما وصل إليه منطق البحث من نتائج أو حقائق ينظمها بشكل واضح يختلف عن شكل تولدها في حركة البحث. أما منطق البحث فمتعرج بالضرورة، خاضع للقفزات والفجاءات والتشعبات، لا يمكنه التنبؤ بها قبل حصولها، وإن كان في سيره العام خاضعاً لفكرة تحركه، وهي منه نقطة البدء والوصول معاً. إنه حركة التفكير نفسه الذي يستكشف الواقع، وينحت شيئاً فشيئاً أدوات هذه العملية من الاستكشاف، ويجد في الرجوع إلى نقطة البدء ضرورة مستمرة كلما تقدم في البحث وبعد عنها، فيستعيدها ثانية لينطلق من جديد في مغامرة أخرى تقوده إلى مجهول يضيء له منطلقه، ويظل في حركته اللولبية يستعيد ما وصل إليه، فتكتمل الدورة لتنفتح من جديد، ثم تكتمل فتنفتح. هذه الحركة هي هي حياة الفكر، أي مغامرة المعرفة. ولقد اتبعت في حركة الفكر منطق البحث هذا، وما خشيته، بل وددت تقديمه إلى القارىء على علاته.
ولم يأتِ اعتماد هذا المنطق من البحث عن إرادة ذاتية ـ وإن وجدت ـ بل عن ضرورة موضوعية هي ضرورة العلم نفسه. لقد أحدث ماركس، بقطعه مع الفكر الهيغلي بوجه خاص، والفكر الميتافيزيقي بوجه عام، ثورة نظرية قفزت بالفكر إلى تربة العلمية في حقل التاريخ الاجتماعي، فصار لزاماً أن يكون الفكر ماركسياً حتى يصير علمياً. وبصيرورته العلمية هذه، لم يعد الفكر العلمي بقادر على أن يكرر في نشاطه المعرفي نشاط الفكر الهيغلي في بناء نظام ميتافيزيقي متكامل يتأول العالم ويقيم علاقة تماثل بين منطق العالم المادي ومنطق العرض الشكلي. وفي تماثل المنطقين تجريبية ومثالية هما ميزتان ملازمتان لكل فكر ميتافيزيقي. لقد وجد الفكر النظامي في هيغل ذروته، بل وجد فيه تحقق مفهومه الكامل. لذا، كان النقد الماركسي لهذا الفكر نقضاً له، من حيث هو هدم له، فكان هذا النقد بالضرورة انتقالاً بالفكر إلى تربة نظرية جديدة هي مقياس لعملية كل فكر. فبهذه القفزة النظرية الماركسية، صار كل فكر نظامي ـ أي كل فكر يحاول أن يعيد التجربة الهيغلية في بناء نظام ميتافيزيقي متكامل ـ فكراً متخلفاً عن الفكر الهيغلي، بله عن الفكر الماركسي. ومثل هذا الفكر النظامي بعد ماركس كمثل فيزيائي يقوم بنشاطه العلمي على أساس الفيزياء النيوتونية، متجاهلاً ثورة أينشتين في الفيزياء، فهو الآن في نشاطه متخلف عن نيوتن نفسه قبل أن يكون متخلفاً عن أينشتين.
وما أكثر المتمركسين عندنا الذين يدعون ـ عن جهل ـ «الثورية» و «الحداثة» في الفكر، بل يدعون تخطي ماركس نفسه، حين يجعلون مثلاً، من النقد الديني أو من نقد الاغتراب (Allénation) المهمة الأولى للفكر «العلمي»، أو قل للفكر المقصر في تعلمه. وما علموا أنهم في جهلهم هذا قد رجعوا إلى ما قبل ماركس فسقطوا في ما سقط فيه النيوهيغليون من جهل بالفكر الهيغلي نفسه. لقد فهموا الثورة كما فهمها هؤلاء، فظنوا أنها «النقد»، فانحصرت عندهم في «ثورة» اللفظ على اللفظ، وكانت كما في وهمهم، ثورة لفظية.
لم يعد من الممكن، في الحقل العلمي، اتباع منطق من العرض المتكامل يفترض وجود نظام فكري تكامل بناؤه. فحركة الانفتاح والاستمرار في منطق البحث هي حركة النشاط العلمي نفسه. وكل انغلاق للفكر في نظام منه متكامل يشل الحركة هذه وينزلق بها من تربة العلمية إلى تربة أيديولوجية يرفضها العلم وينقضها... إن طابع الانفتاح من هذه الحركة هو الذي يفرض إذن، على البحث أن يتقدم بما وصل إليه من معرفة في شكل نتائج موقتة تصير بدورها معطيات أو منطلقات، أي مادة أولى لبحث آخر يسير في الأفق الذي انفتحت عليه وافتتحته، فتخضع بهذا لنقد يعمقها ويرسم حدودها. وتاريخ الفكر الماركسي نفسه خير مثال على هذه الحركة من البحث العلمي التي هي استعادة مستمرة لمعطيات علمية في ضوء ما توصل إليه العلم من معرفة متجددة.
ولقد رأيت في العودة إلى مشكلة التناقض ضرورة لدرس العلاقة الكولونيالية، ففهم هذه العلاقة يجد أساسه النظري في نظرية التناقض، كما أن فهم آلية الحركة التحررية الوطنية يجد أساسه النظري في فهم طابع التمييز من علاقات الإنتاج الكولونيالية. لذا كان القسم الأول من هذا البحث مقدمة نظرية لدراسة القسم الثاني منه، وكان القسم هذا بدوره قاعدة أساسية لدراسة علاقة الفكر الاشتراكي العلمي بحركة التحرر الوطني. ولقد ألحقت في نهاية هذا القسم الأول مقالاً كنت قد نشرته في مجلة الطريق (عدد 7ـ8. سنة 1970)، يعالج في الفقرة الرابعة منه بشكل خاص مشكلة التناقض. لذا، على القارىء أن يرجع إلى هذا المقال في الملحق قبل أن يبتدىء بقراءة البحث هذا، لأنني في تطوره كنت أفترض أن ما أتى في المقال هو معلوم من القارىء.
إن البحث الفردي عمل حرفي قد تخطاه الشكل العلمي للفكر المعاصر. ولئن مارست البحث هذا بشكل حرفي فلأن شروطاً موضوعية متعددة أرغمتني على ذلك. لا بد لعملية التفكير من أن تتم في إطارها الطبيعي والضروري، فنقد القارىء لما سيجده من مغامرة فكرية في هذا البحث جزء من البحث أساسي لمتابعته. فعسى أن يقوم بنقد هو هو إسهام في تطور البحث المشترك.
تموز 1973