أنت هنا

قراءة كتاب في تاريخ الدين والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في تاريخ الدين والفلسفة

في تاريخ الدين والفلسفة

هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو شذرة ويجب أن يبقى شذرة. وبصدق وصراحة فإني أود لو أن هذا الكتاب لم يطبع.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2

أما الأهمية التاريخية للوثر والإصلاح الديني فيراها هايني في أن ميلاد الحرية الفكرية قد تم على يدي لوثر، حيث أنه منح العقل الإنساني الحق في أن يفسر الإنجيل بعيداً عن كل سلطة أو تأثير خارجي. كما أن الفلسفة الألمانية ليست إلا آخر ثمرة لهذه الحرية الفكرية المكتسبة(9). ويبلغ التطور ذروته في نقد كانط الذي يعد الإله مفهوماً حدياً أو شيئاً في ذاته. وتدحض فلسفة كانط كل الأدلة الممكنة على وجود إله فُهم فهماً إلحادياً. أما هيجل فيختتم هذا التطور، وتبين فلسفة الدين عند هيجل أن المسيحية تختلف عن غيرها من الأديان الأخرى في أن لها إلهاً. على أن هذا الإله مات. ثم إن فكرة المعرفة المطلقة التي طرحها هيجل تتضمن بأن الإله لا يصل إلى وعي ذاته إلا بالإنسان. ولم يكن هايني الوحيد الذي فهم رأي هيجل بأنه تأليه ذاتي للإنسان. فالله أصبح انساناً، على حد تعبير هيجل. وهذا ما ساهم ويساهم في دفع عجلة الإلحاد وشجع عليه(10). والحق أن الجوهر الحقيقي للمذهب الإلحادي المعاصر لا ينحصر في نكران وجود الله، بل إن الواقع هو أن العقل يعتمد على نفسه ويخوّل لنفسه الحق في أن يقرر في مثل هذه القضايا انطلاقاً من السيادة المطلقة التي يتمتع بها. فنقد كانط، مثلاً، يقدم البرهان على استحالة معرفة الإله الطبيعية، وبذلك ينهار "مذهب التأليه، مرتكز نظام الحكم الفكري القديم،... وإنَّ الذي يتهيّأ للموت هو يهوه القديم نفسه.. فالمرء يقدم القربان المقدس لإله يموت"(11).
هكذا يبلغ عصر الاستنارة غايته وتتم القطيعة مع التقليد الديني اللاهوتي.
إن نقد العقل العملي لدى كانط قد توصل مرة أخرى إلى مفهوم إله وذلك من طريق غير مباشر مروراً بالقانون الخلقي. ويفهم هايني هذا على أنه تقلب وتراجع واستسلام أمام البداية الأساسية، كما يرى في ذلك مهزلة، ذلك لأن كانط انساق إلى ذلك إما بدافع الشفقة على خادمه العجوز أو بسبب الشرطة(12).
وفسر هايني تطور كل من فيخته وشيللنغ بأنه أيضاً تقلب وارتداد وجبن أمام البداية الثورية التي بدأها الفيلسوفان(13). بل إنه لم يتوانَ عن الهزء والسخرية من تصوف شيللنغ المزعوم الذي تجمّل به في آخر حياته(14).
والحق أن هايني يرى في ظواهر التاريخ الاجتماعية والسياسية والظواهر الفكرية المماثلة شيئاً موحداً. فالتاريخ السياسي وتاريخ العادات والتقاليد والقيم والحق والفن والدين، هذا كله يشكل وحدة تامة. وهذا يعني أن يصور التحولات الاجتماعية والسياسية على أنها تحولات الحياة الفكرية في المقام الأول. وعلى هذا فإن فهم الفلسفة لا يمكن انطلاقاً منها فحسب، بل انطلاقاً من علائق سياسية أيضاً. فتاريخ الفلسفة مثله كمثل تاريخ الدين وهو أبداً عنصر التاريخ السياسي.
وإنَّ المثال الذي يصلح لربط السياسة بالفلسفة هو معالجة الثورة الفرنسية من جهة ثم معالجة التطور الفلسفي من كانط إلى هيجل من جهة أخرى. ويسمي هايني الفلسفة الألمانية في ذلك الحين حلم الثورة الفرنسية. فالألماني تأملي ويميل بطبعه إلى الأحلام، فلا يعيش في الحاضر، بل في الماضي والمستقبل وهو محافظ غير ثوري. وبذلك فإنَّ للطبع الألماني صلته الخاصة بالسلوك النظري خلافاً لما يتميز به الفرنسي الذي يقرّ رأيه على الفعل والعمل. وعلى هذا يرى هايني أن المفتاح لفهم الطبع الألماني هو الفلسفة لا الأدب.
ويذهب هايني إلى أنَّ الفلسفة، أية فلسفة كانت، لها مدلول اجتماعي مباشر ونتائج اجتماعية. إنَّ صياغة فكرة مجردة يمكن أن تستحيل إلى واقعة مهمة من الناحية الاجتماعية والسياسية بحيث يتشكل من خلالها الوجود الفعلي. فالكون، في نظر هايني، هو علامة الكلمة ورمزها(15). وبواسطة الكلمة يمكن تغيير الواقع. ولئن كانت الفلسفة تصوّر هذا الكون مجرد تصوير فهي جزء من هذا الكون. ويضع هايني هذا التداخل نصب عينيه حين يسأل عن مدلول الفلسفة الاجتماعية الذي هو معيار للحكم على هذا النوع من الفلسفة. وعلى هذا لم تكن الفلسفة بدءاً من كانط وحتى هيجل حلم الثورة الفرنسية فحسب، بل مهدت أيضاً لثورة ألمانية على نحو مباشر سواء أكانت هذه النتيجة مقصودة أم لا. ولما أن المرء سيسير بالمذهب الإلحادي في هذه الفلسفة إلى أبعد الحدود فلا بد أن تكوّن الفلسفة وتخلق بالضرورة قوى ثورية تتفجر ذات يوم. وهنا سيعتمد الإنسان الفرد على نفسه ويقرر مصيره بيده بحكم ذلك. ويؤكد هايني على أن الشعب الألماني شعب منهجي. إذ لا بد أن يبدأ بالإصلاح الديني ثم ينتقل إلى الفلسفة. كما أن الثورة السياسية لن تندلع إلا بعد اكتمال الفلسفة. ويعلل هذا قائلاً: "إن الرؤوس التي استغلتها الفلسفة للتفكير والتأمل تستطيع الثورة أن تطيح بها فيما بعد لأغراض تريدها. على أن الفلسفة ما كان في وسعها أن تستخدم أبداً الرؤوس التي أطاحت بها الثورة لو أن الثورة سبقت الفلسفة"(16)
إنه، بذلك، يرد على هيجل الذي يرى أن الألمان ليسوا بحاجة إلى ثورة كالفرنسيين لأنهم حققوا الإصلاح الديني. ويرد أيضاً على رأيه القائل إنه ليس في الإمكان تغيير ما هو قائم وموجود معترضاً عليه بأن الثورة الألمانية يجب أن تحدث على نحو أعمق بكثير من الثورة الفرنسية ويجب أن تدوّي على نحو لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم ذلك لأن نقد كانط وفلسفة فيخته والفلسفة الطبيعية سبقت هذه الثورة ومهدت لها.

الصفحات