هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو شذرة ويجب أن يبقى شذرة. وبصدق وصراحة فإني أود لو أن هذا الكتاب لم يطبع.
أنت هنا
قراءة كتاب في تاريخ الدين والفلسفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
وبحماسة مذهلة يتحدث هايني في آخر كتابه عن ثورة مقبلة في ألمانيا يهيئها فهم الواقع الجديد للفلسفة الألمانية. إذ سيظهر أتباع كانط الجدد ليرفضوا كلَّ مذهب تقوي في عالم الظواهر ليقطعوا آخر الروابط التي تربطهم بالماضي. وسيأتي أتباع فيخته الجدد وهم أشدّاء الشكيمة أقوياء الإرادة. أما فلاسفة الطبيعة الجدد فسيقحمون أنفسهم في عملية التهديم التي تقوم بها الثورة الألمانية مسخّرين الطبيعة وقوى الطبيعة لعملهم الجديد. ولا يتوانى هايني من أن يحذّر الفرنسيين من هذه الثورة التي لن تظهر ثورتهم أمامها إلا أنشودة رعوية بسيطة هادئة(17)
وإذا لم تكن نبوءة هايني قد تحققت بمفهومها الاجتماعي والسياسي والديمقراطي على النحو الذي كان قد ابتغاه فإنها تحققت، من دون شك، على الصعيد الفكري.
إن هايني حريص على أن يصوّر للجمهور الفرنسي تاريخ الفلسفة الألمانية تصويراً شعبياً مبسطاً إذ أنه يؤمن أن للفلسفة الشعبية الجماهيرية قوتها المكونة للوعي. ثم إن هذا الضرب من الفلسفة كثيراً ما يكون مصدراً للتأثيرات التاريخية، وقد يكون، في بعض الأحيان وسيطاً لمثل هذه التأثيرات.
فالشيء الذي يريده هايني، إذاً، هو أن يطلع الفرنسيين على حياة الألمان الفكرية. كما يهمه أيضاً أن يطلع الألمان على ممارسة الفرنسيين للعمل السياسي ممارسة عملية. إنه يؤكد على جبهات الصراع السياسية بين التقدم والرجعية كما تتمثل في تاريخ الفكر الإنساني ويتتبع معالمها في مواضع عديدة بوضوح يبعث على الدهشة والإعجاب. وفي أثناء هذا كله يكشف عن الصلات الكامنة المستترة بين الصراع السياسي والحوار الفلسفي بحيث إننا نلمس تحيّزه للجانب التقدمي ودعوته إلى تحطيم روح النسك ونسف مذهب الفصل بين المادة والروح ونبذ مبدأ احتقار الجسد. كما يرسم على الأفق صورة ديمقراطية "لأرباب متساويين في السمو والعظمة والقداسة والغبطة"(18) إن هايني الذي ولد عام 1797 لأبوين يهوديين في مدينة دوسلدورف بمنطقة الراين قد آمن بالتقدم الإنساني وبمبدأ التآخي والتضامن الإنساني.ونراه يقوّم المسيحية بناء على معايير سياسية واجتماعية وينظر إلى المسيح على أنه أطهر أبطال الحرية والإله الشعبي المتواضع ذو النزعة الديمقراطية(19)
ومع أن هايني اعتنق المذهب المسيحي البروتستانتي في عام 1825 فإن هذا لا يعني أنه تحرر نهائياً من التقليد اليهودي، بل إن شيئاً ما من جوهر الحياة اليهودية والفكر اليهودي بقي فيه. على أننا نستطيع القول أيضاً: إنه تجاوز هذا التقليد وذهب إلى ما وراء اليهودية(20) ويذهب أحد الذين ترجموا له إلى أن هايني، رغم اعتناقه المسيحية، لم يكن مسيحياً ولا ملحداً ولم يكن مؤمناً ولا كافراً..(21). وهكذا ظل موزعاً بين المسيحية واليهودية ومكتفياً بأن يموت شاعراً لا حاجة له لا إلى الدين ولا إلى الفلسفة.
في سنة 1819 التحق بجامعة بون لدراسة القانون بعد أن أخفق في الأعمال التجارية والمصرفية التي أوكلها إليه عمه المصرفي سالمون هايني.
وفي بون أتيحت له الفرصة لأن يستمع إلى محاضرات أوغست فيلهلم شليغل، أحد أقطاب المدرسة الرومانسية، الذي شجّع هايني على الاستمرار في محاولاته الأدبية وكتابة الشعر. وفي سنة 1820 انتقل إلى جامعة غوتنغين. وفي سنة 1821 انتقل إلى جامعة برلين حيث احتضنه نادي السيدة راحيل فانهاجين الأدبي ومهد له الالتقاء بكبار رجال الأدب والفكر. واستمع أيضاً إلى محاضرات هيجل في الفلسفة.
وفي سنة 1824 يعود إلى غوتنغين ويتقدم إلى امتحانات الدكتوراه في القانون بعد سنة واحدة.
وفي سنة 1827 ينشر المجموعة الشعرية الأولى بعنوان "سفر الأناشيد" فتحظى باهتمام كبير في الأوساط الأدبية، بل تحقق له شهرة واسعة إلى جانب كتابه "رحلة إلى جبال الهارتز" الذي نشره سنة 1826. وبدءاً من عام 1830 نجد هايني في باريس. وفي سنة 1835 يصدر مجلس النواب الألماني مرسوماً يمنع مؤلفات مجموعة من الكتاب الألمان الذين عرفوا باسم "ألمانيا الفتية" وفي مقدمتهم هايني. لكنَّ الحكومة الفرنسية تخصص منحة مالية للشاعر. ويستوطن هايني في باريس ويتعرف على مشاهير المعاصرين من الكتاب والشعراء من مثل دوماس وغوتييه وبلزاك وجورج صاند. وفي المهجر ينشر الشاعر مؤلفاته النثرية والشعرية. ونخصّ بالذكر "المدرسة الرومانسية" (1831 ـ 1832) "وحول تاريخ الدين والفلسفة في ألمانيا" (1834).
وفي سنة 1848 نجد الشاعر مريضاً بسل النخاع الشوكي. وينطرح على فراش الموت مشلولاً شبه أعمى مدة ثماني سنوات: "فالموت ليس مصيبة. لكنّ المصيبة هي العذاب الذي يطول أعواماً قبل أن يظفر المرء بالموت".
وعلى سرير الموت البطيء يكتب الشاعر آخر قصائده بعنوان "رومانسيرو" (1851)، كما يكتب "الاعترافات" أيضاً. أما "مذكراته" التي دوّنها في مرحلة المرض العضال فلم تصل إلينا لأن آل هايني الذين كان الشاعر على خلاف معهم بسبب ميراث، أتلفوها بعد مماته.
وفي السابع عشر من شباط سنة 1856 وافت المنية الشاعر وكانت آخر كلماته: "القرطاس.. والقلم".
إذا كان هايني قد نظم الشعر في شبابه مثل أي شاعر رومانسي فإنه كان يتمتع بروح مغايرة لروح الرومانسي. إذ أن الرومانسية كانت هرباً إلى عالم الحلم والماضي، بينما لم يكن هايني بعيداً عن الواقع، بل كان شديد الصلة بالحاضر.
إننا نقدم هايني لقراء العربية من خلال كتابه "حول تاريخ الدين والفلسفة" الذي كتبه هايني بأسلوبه المتميز بروح السخرية والدعابة الشاعرية وبالروح العدوانية الذكية الفكهة بالإضافة إلى روح البساطة الشعبية الواضحة المفهومة.
فالمؤلف، كما سنلتقي معه على هذه الصفحات، مطبوع على الحديث إلى القارئ بطريقة لا غموض فيها ولا تعقيد مع أن هذا الحدث لا يخلو من التلميح والغمز والتعريض. وفي الوقت نفسه يقول له أشياء في غاية من الصعوبة والأهمية بحيث لا يجد القارئ كبير عناء في فهم هذا الصعب وإدراك أهميته.
" كل شيء هادئ هدوء ليلة شتائية تكاثفت ثلوجها. وليس هنالك إلا تساقط قطرات خفيف رتيب. إنه الفوائد التي تصب على نحو مستمر في رؤوس الأموال التي تتضخم أبداً. ويسمع المرء تماماً كيف تنمو ثروات الأغنياء ويتخلل ذلك انتحاب الفقر . وأحياناً يصلصل شيء ما أشبه بسكين تشحذ".
هذا هو هايني الشاعر الذي يرى أن الرسالة الكبرى في الحياة هي تحرير الشعوب وأن الشعراء والكتاب ناضلوا من أجل ذلك وتحملوا شتى ألوان الضيم والعذاب سواء في الوطن أو في المهجر. إننا لن نجافي الصواب إذا ما عددنا هايني أعظم الوسطاء بين الحضارة الألمانية والحضارة الفرنسية. فهو لم يكن وسيطاً لكي يوفق بين شعبين فحسب، بل ليوفق بين نقيضين يتوقف أحدهما على الآخر. وهذان القطبان المتضادان هما الحياة والروح أو الفكر والحياة.
اللاذقية في 1 / 6 / 1986
صلاح حاتم