أنت هنا

قراءة كتاب في تاريخ الدين والفلسفة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
في تاريخ الدين والفلسفة

في تاريخ الدين والفلسفة

هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو شذرة ويجب أن يبقى شذرة. وبصدق وصراحة فإني أود لو أن هذا الكتاب لم يطبع.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

ولكن بالنسبة لرجل أمين مستقيم، ومهما كانت الأسباب، يبقى له الحق الثابت بأن يقر ويعترف بخطئه بصراحة. ولسوف أقوم هنا بذلك دون حياء أو خجل. وأعترف بصراحة صريحة بأن كل ما له علاقة في هذا الكتاب بمسألة الإله هو خطأ وطيش في آن واحد. كما أنه خطأ وطيش هو الزعم الذي زعمته المدرسة(9) وردّدته أنا وهو أن مذهب التأليه(10) قد انهار نظرياً ولم يعد يحيا إلا في عالم الظواهر حياة ضنكٍ. كلاّ، ليس بصحيح أن نقد العقل الذي هدم الأدلة على وجود الإله كما عرفناها منذ انسيلم فون كانتربري(11) قد وضع أيضاً نهاية لوجود الإله. فمذهب التأليه يعيش ويحيا حياةً أكثر نشاطاً وحيوية، فهو لم يمت، وأقل ما يمكن فقد أماتته الفلسفة الألمانية الحديثة. فهذا الجدل البرليني(12) الذي هو أشبه بشباك العنكبوت لا يستطيع أن يجذب كلباً من فوهة الفرن، ولا يستطيع أن يقتل قطة فكيف بإله؟ ولقد جرّبت هذا بنفسي وخبرت أن ما يقوم به هذا الجدل من قتلٍ ليس على جانب كبير من الخطر. فهو يقتل أبداً ويبقى الناس في أثناء ذلك أحياء. إن روجي(13) المتجهم العبوس، بوّاب المدرسة الهيجلية، زعم ذات مرة بصلابة وتأكيد، أو بالأحرى بتأكيد وعزم وصلابة، أنه قضي عليَّ ضرباً بعصاه البوابية في "تقاويم مدينة هاله" وفي الوقت نفسه تجوّلت في البوليفار بباريس بنشاط وصحة وعلى نحو أكثر حيوية من ذي قبل.
يالروجي الشجاع المسكين! فهو نفسه لم يستطع أن يمسك فيما بعد عن أصدق أنواع الضحك لمّا اعترفت له في باريس أنَّ عينيَّ لم تقعا أبداً على الصحف القاتلة الرهيبة المسماة "تقاويم مدينة هاله"، كما أن وجنتي الممتلئتين المتوردتين وشهيتي الطيبة التي ازدردت بها المحار أقنعته بأنني لا أستحق كثيراً اسم جثة. والحق أنني كنت آنذاك صحيح الجسم وبديناً وكنت في أوج سمنتي كما كنت على نحو من الجذل والغرور أشبه بالملك نبوخذ نصر قبل سقوطه المفاجئ.
وا أسفاه! إذ أنه، فيما بعد ولبضع سنوات خلت، ظهر تبدّل جسماني وعقلي وكثيراً ما تذكرت منذ ذلك الحين تاريخ هذا الملك البابلي الذي خال نفسه إلهاً، لكنه هوى فجأة من علياء زهوه وخيلائه على نحو يدعو للشفقة وزحف على الأرض كحيوان والتهم العشب(14)، (ولعلّه كان خسّاً). هذه الأسطورة الموجودة في سفر دانيال الرائع لا أنصح بقراءتها السيد المحترم روجي فحسب، يل أيضاً صديقي الأكثر عناداً ماركس والسادة فويرباج(15) وداومر(16) وبرونو باور(17) وهينجستينبيرغ(18)، هؤلاء الآلهة بأنفسهم الناكرين الإله، أنصح بأن يقرؤوا الأسطورة من أجل الاعتبار الذي يشرح الصدر. وفي الكتاب المقدس أيضاً قصص أكثر جمالاً وغرابة وجديرة بالاعتبار. وعلى سبيل المثال فإننا لنجد في البداية قصة الشجرة المحرمة في الجنة وقصة الحية، هذه المدرّسة المحاضرة الصغيرة التي حاضرت في فلسفة هيجل كلها قبل مولد هيجل بستة آلاف سنة. وهذه المرأة العاملة التي لا أقدام لها تبين بذكاء قاثب كيف ينحصر المطلق في هوية(19) الوجود والمعرفة وتطابقهما أو كيف يتوصل الإله في الإنسان إلى الوعي بذاته. وإن عبارة "إذا أكلتم من شجرة المعرفة صرتم كالإله" ليست واضحة وضوح العبارات الأصلية الأولى. ولم تفهم السيدة حواء من هذا العرض والإيضاح كله إلا شيئاً واحداً ليس غير وهو أن الثمر محرّمٌ، ولما كان محرّماً فقد أكلت منه المرأة الصالحة. ولكنها ما إن أكلت من التفاح المغري حتى فقدت براءتها ومباشرتها البسيطة ووجدت أنها على جانب كبير من العري بالنسبة لشخص من طبقتها، وهي الأم الأولى لكثيرين ممن سيصبحون فيما بعد قياصرة وملوكاً. وطلبت ثوباً. وطبيعي أنه لو لم يكن إلا ثوباً من أوراق التين، ليس غير، لأنه لم يكن آنذاك قد ولد بعد أصحاب مصانع الحرير بمدينة ليون، ولأنه لم يكن يوجد بعد في الجنة صانعات القبّعات ولا تاجرات الأزياء.. أيتها الجنة! الغريب أن أول ما فكّرت هذه المرأة لحظة وعيها بذاتها المفكرة، فكرتّ بثوب جديد. فهذه القصة من الكتاب المقدس، وعلى الأخص حديث الحية، لا تبرح ذهني وأود أن أضعها شعاراً لهذا الكتاب على نحو ما يرى المرء من لافتات أمام حدائق الأمراء تحمل التحذير التالي: "هنا تكون الشرك والفخاخ".
وسبق أن تكلمت في أحدث ما ألفت من كتب، أي في ديوان القصائد "رومانسيرو"(20)، على التحوّل الذي طرأ على تفكيري وما له علاقته بالقضايا الإلهية.
ولقد وجّهت إلى منذ ذلك الحين استفسارات كثيرة تلح عليَّ بإلحاح مسيحي لمعرفة الطريق الذي استنرت عليه أفضل استنارة. ويبدو أن نفوساً صالحة تصبو إلى أن أكذب عليها بان معجزة حدثت، وتود هذه النفوس أن تعرف ما إذا كنت قد أبصرت كما أبصر شاول(21) نوراً وهو في طريقه إلى دمشق أو إذا كنت ركبت كما ركب بلعام بن بورة حمارة حروناً فتحت فاها على حين غرة وراحت تتكلم(22) كما يتكلم إنسان.
كلا، أيتها النفوس الصالحة، إنني لم أسافر قط إلى دمشق ولا أعرف شيئاً البتة عن دمشق، وكل ما أعرفه عن دمشق هو أن يهود تلك البلد(23) قد اتهموا منذ زمن غير بعيد بأنهم أكلوا رهباناً كبوشيين شيوخاً، كما أنني أكاد أجهل اسم هذه المدينة لو لم أقرأ نشيد الإنشاد الذي يشبّه فيه الملك سليمان أنف حبيبته(24) ببرج يطلّ على دمشق. كما أنني لم أرَ أبداً حماراً من ذوات الأربع تكلم كما يتكلم البشر على حين قابلت الكفاية من البشر الذين إذا فتحوا أفواههم تكلموا كالحمير.
والحق أنه لا توهم ولا غيبوبة ملائكية ولا صوت من السماء ولا حلم غريب أو شبح عجيب قادني على طريق الخير والفلاح. إنني ـ ببساطة تامة ـ أدين باستنارتي لقراءة كتاب ـ أهو كتاب؟ أجل، إنه كتاب يبدو علمياً ومتواضعاً، فهو كالشمس التي تدفئنا وكالخبر الذي يغذينا. إنه كتاب يطالعنا بنظرات الأنس واللطف والطيبة والبركة، مثله مثل جدة عجوز تقرأ كل يوم في الكتاب بالشفتين الحلوتين المرتجفتين وبالنظارة فوق الأنف، ويدعى هذا الكتاب بكل بساطة كتاب الكتب أو كما يسميه الناس بحق الكتاب المقدس. فمن أضاع إلهه استطاع أن يجده مرة في هذا الكتاب. ومَنْ لم يعرفه أبداً لفحه روح الكلمة الإلهية. فاليهود الذين يجيدون التعامل بالنفائس عرفوا جيداً ما فعلوه حين تخلوا في أثناء حريق الهيكل الثاني(25) عن الأواني والأطباق الذهبية والفضية وعن الشمعدانات والمصابيح، وتخلوا أيضاً عن صدار كبير الكهنة المزركش بالأحجار الكريمة الكبيرة ولم ينقذوا سوى الكتاب المقدس الذي كان الكنز الحقيقي للهيكل. وبحمد الله فإن النيران لم تلتهمه ولم يصبح نهباً للوغد الزنيم تيطوس فيسباسيانوس الذي انتهى نهاية سيئة للغاية على نحو ما يروي الأحبار.
ثم إن كاهناً يهودياً يدعى يوشوا بين سيراز بن إليازر عاش في القدس قبل مائتي عام من حدوث حريق الهيكل الثاني وفي أثناء الفترة الذهبية من حكم بطليموس فيلاديلفوس(26)، وقد عبّر هذا الكاهن عن فكرة عصره بخصوص الكتاب المقدس في "ميثاليم"، مجموعة حكم وأقوال مأثورة(27). وسأسوق هنا كلماته الجميلة. فهي رهيبة رهبة الكهنوت ولكنها في الوقت نفسه منعشةٌ إلى حد الإمتاع والراحة، لكأنها انبثقت أمس من صدر إنساني حي وهي: "هذا كله هو في الحقيقة كتاب الاتحاد المعقود مع الإله الأعظم، أي الشريعة التي سنها موسى على آل يعقوب لتكون الكنز. ومنها تنساب الحكمة انسياب ماء بيسون حين يكون عظيماً وكانسياب ماء دجلة حين ينتقل إلى ربيع الماء والأمطار. وينساب منها العقل انسياب الفرات حين يكون عظيماً وكانسياب الأردن في وقت الحصاد. ومن الشريعة نفسها ينبثق الأدب والتربية كالنور وكما النيل في الخريف. فما كان أبداً مَنْ أنهى بها مرحلة التعلم ولن يكون أبداً مَنْ أراد سبر غورها. إذ أن معناها أغنى، فهي ليست ببحر، وكلمتها أعمق إذ لا قرار لها".
كتبت بباريس في أيار 1852
هاينريش هايني

الصفحات