هذا الكتاب الذي بين أيديكم هو شذرة ويجب أن يبقى شذرة. وبصدق وصراحة فإني أود لو أن هذا الكتاب لم يطبع.
أنت هنا
قراءة كتاب في تاريخ الدين والفلسفة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
والحق أنه إن كان على المرء أن يسعى في هذه الحال لأن يحافظ على المسيحية حتى لو أدرك أنها خطأ، فقد كان عليه أن يسير في أرجاء أوروبا حافي القدمين وفي مِسْح الرهبان، ويبشر بفناء حطام الدنيا كله، ويدعو إلى الزهد ويرفع الصليب المواسي أمام الناس المهانين المعذبين واعداً إياهم بعد الموت، هناك فوق، بالسبع سماوات.
وربما لأن عظماء هذه الأرض متأكدون من سلطتهم العليا، ولأنهم عقدوا العزم على أن يسيئوا استعمالها أبداً لسوء حظنا وتعاستنا فإنهم مقتنعون بضرورة المسيحية لشعوبهم. وإنه في الحقيقة لشعور إنساني رقيق أنهم يبذلون قصارى جهودهم للحفاظ على هذا الدين! إن المصير النهائي للمسيحية وقف، إذاً على ما إذا كنا نحن لا نزال بحاجة إلى المسيحية. وهذا الدين كان نعمة وبركة للإنسانية المعذبة خلال ثمانية عشر قرناً. فلقد كان مقرراً من لدن العناية الإلهية وكان إلهياً ومقدساً. ولئن كان أفاد المدينة والحضارة بأنه روض الأقوياء وقوّى الودعاء وربط الشعوب بإحساس واحد ولغة واحدة وغير ذلك مما لا يزال حماته والذوادون عنه يعتزون به ويفخرون، فإن هذا كله لا يزال تافه الشأن بالقياس إلى ذلك العزاء الكبير الذي يمنحونه للإنسان من لدنهم أنفسهم. والمجد الأزلي الخالد لرمز ذلك الإله الذي يعاني ويتعذب، لمنقذ العباد صاحب إكليل الشوك، المجد الخالد للمسيح المصلوب الذي كان دمه أقرب ما يكون إلى البلسم الشافي الذي انساب في جراح الإنسانية. فالشاعر، على وجه الخصوص، سيعترف بعظمة هذا الرمز المخيفة بكل تهيّب ورهبة. وإنَّ نظام الرموز التي تظهر في فن العصور الوسطى وحياتها ستثير على مر الأزمان إعجاب الشعراء. وبالفعل، فيا للنتيجة الهائلة في الفن المسيحي، لا سيما الفن المعماري! ويا لهذه الكنائس الغوطية وهي تنتصب في وفاق وانسجام مع العبادات وتتجلى فيها فكرة الكنيسة نفسها! كل شيء يشمخ هنا عالياً ويتحول بذاته: فالحجر يتفرع إلى أغصان وأوراق ويستحيل إلى شجرة. وحبة العنب والسنبلة تستحيل إلى دم ولحم. ويستحيل الإنسان إلى روح خالص. فالحياة المسيحية لا تنضب نفاستها. بواسطة المسيحية وحدها كان في الإمكان أن تنشأ أحوال انطوت على تناقضات في غاية من الجرأة، وانطوت على آلام في غاية من التنوع، وعلى جمال في غاية من الوهم والخيال بحيث أنَّ المرء مضطر إلى القول إنَّ مثل هذا لا وجود له في الواقع وإن هذا كله هذيان حمّى هائل، والطبيعة نفسها بدت آنذاك مقنّعة بالوهم والخيال. وفي أثناء ذلك ومع أنَّ الإنسان الذي هو أسير التأملات المجردة قد انصرف عنها بَرِماً فإنها كانت توقظه في بعض الأحيان بصوت حلو رقيق فيه من الحلاوة ما يخيف ومن الرقة ما يرعب، صوت فيه قوة سحرية كبيرة بحيث أنَّ الإنسان أصاخ السمع بلا شعور وابتسم وارتاع ومرض مرضاً شديداً شارف فيه على الموت. وهنا، وفي هذا الصدد، تحضرني قصة عندليب مدينة بازل(20). ولما كنتم لا تعرفونها فإني سأرويها لكم. في أيار سنة 1433 وفي عهد المجمع الكنسي(21) قامت مجموعة من رجال الدين بنزهة إلى إحدى الغابات التابعة لمدينة بازل وقد اشتملت هذه المجموعة على أساقفه ودكاتره ورهبان من كل الأصناف والألوان وتناقشوا في موضوع الخلافات اللاهوتية وميزوا وتحاجّوا واختلفوا في الترشيحات والتحفظات أو أنهم تناقشوا فيما إذا كان توماس الأكويني(22) فيلسوفاً أعظم من بونافينتورا(23) وغير ذلك من الأمور التي لا بداية لها ولا نهاية. ولكنهم فجأة وبينما هم في وسط نقاشهم العقائدي المجرد أمسكوا عن الكلام وجمدوا في أماكنهم أمام شجرة زيزفون مزهرة حطَّ عليها عندليب ترنم بأرق الألحان وأعذبها. وفي أثناء ذلك شعر السادة العلماء بالروعة، فقد نفذت أنغام الربيع الدافئة إلى أعماق قلوبهم التي ضاقت بالتحفظات المدرسية واستيقظت أحاسيسهم من نوم شتائي عميق. وتبادلوا النظر في بهجة ودهشة. وأخيراً أبدى أحدهم ملاحظة ذكية وهي أنَّ في مثل هذا شيئاً غريباً وأنَّ هذا العندليب قد يكون شيطاناً وأن هذا الشيطان أراد أن يصرفهم عن أحاديثهم الدينية بأنغامه العذبة النقية ويغريهم بالملذة والآثام الحلوة الأخرى فراح يعزّم بالصيغة المألوفة آنذاك: إني لأعوذ منك بالذي سوف يأتي ليحق الحق بين الأحياء والأموات.. الخ.. الخ. ويقال إنَّ الطائر أجاب في أثناء هذه التعويذة: "أجل، إني روح شريرة" ثم طار ضاحكاً. وقيل إنَّ الآخرين الذين سمعوا صداحه مرضوا في نفس اليوم وما لبثوا أن ماتوا إثر ذلك.
هذه القصة لا تحتاج إلى تعليق. إنها تحمل الطابع المرعب لعصر وسم كل شيء حلو وجميل بالشيطانية. حتى إن العندليب شوهت سمعته، وكان المرء يصلّب كلما غنى. فالمسيحي الحقيقي كان يتجوّل في أرجاء الطبيعة المزهرة بحواس مغلقة من الخوف مثله مثل شبح مجرد. وقد أعالج علاقة المسيحي هذه بالطبيعة في فصل آخر معالجةً مستفيضة حين أكون مضطراً إلى البحث مفصّلاً في الإيمان الشعبي الألماني من أجل فهم الأدب الرومانسي الجديد.
ولا يسعني في الوقت الحاضر إلا أن أقول إنَّ كتاباً فرنسيين ضلّلتهم سلطات ألمانية ليعمهوا في ضلال كبير حين يظنون بأن الإيمان الشعبي كان في أثناء العصور الوسطى على شاكلة واحدة في سائر أنحاء أوروبا. على أن الناس لم يجمعوا على رأي واحد إلا في مسألة مبدأ الخير، أي مملكة المسيح، ليس غير. وعلى ذلك قامت الكنيسة الرومانية. فمن انحرف هنا عن الرأي المفروض كان هرطقياً ملحداً. أما بخصوص مبدأ الشر، أي مملكة الشيطان. فقد سادت آراء مختلفة في مختلف البلدان. وكان للناس في الشمال الجرماني تصورات أهل الجنوب الروماني. ولقد نشأ هذا عن أن رجال الدين لم يرفضوا الآلهة القدامى الموجودين بصفتهم أضغاث أحلام فارغة، بل إنهم منحوهم وجوداً حقيقياً، لكنهم زعموا في أثناء ذلك أن هؤلاء الآلهة ليسوا إلا شياطين وشيطانات فقدوا سلطانهم على الناس بانتصار المسيح عليهم ويريدون الآن أن يغووا البشر إلى الإثم باللذة والحيلة. فالأولمب كله استحال الآن إلى جحيم ضبابي غائم. وإذا ما تغنى أحد شعراء العصور الوسطى بتاريخ الآلهة اليونان على نحو جميل فإنَّ المسيحي الورع لم ير في ذلك إلا شبحاً أو شيطاناً. فوهم الرهبان القاتم أصاب فينوس المسكينة أشد إصابة. وفينوس هذه، بصورة خاصة، اعتبرت ابنة للشيطان، حتى إنَّ الفارس الهمام طانهيوزر خاطبها قائلاً:
أي، فينوس، يا حسنائي الجميلة
أنت شيطانة!(24)
وكانت فينوس قد أغرته في ذلك الكهف العجيب الذي سمي جبل فينوس. ومن هناك نشأت الأسطورة القائلة إن الإلهة الجميلة عاشت هناك مع فتياتها وقرائنهن حياة خليعة بين اللهو والرقص. حتى إن ديانا المسكينة، رغم عفتها وطهارتها، لم تسلم من المصير نفسه: فما كان من المرء إلا أن جعلها تجتاز الغابات ليلاً مع حورياتها.
ومن هنا جاءت أسطورة الجيش الغضبان وحيد الضواري.