كتاب " البلاغة وتحليل الخطاب "، يتمحور موضوع الكتاب حول إشكالية النسق السيميائي للخطاب الاستعاري، وهو خطاب يفترض فيه أنه منفتح على القراءة والتأويل، لأنه يمثّل خاصية أساسية في اللغة الطبيعية في جوانبها: التمثيلي، الدلالي، والتداولي.
قراءة كتاب البلاغة وتحليل الخطاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البلاغة وتحليل الخطاب
2.1 ـ نماذج التحليل المحايث
الاتجاه الأول أرساه إيميل بنفينيست ابتداء من سنة 1956 حينما أصدر دراسته الموسومة بطبيعة الضمائر (La Nature des Pronoms) التي تدخل إطار ما اصطلح على تسميته باللسانيات التلفظية التي لم تتوقف عن التطور منذ تلك الدراسة، كما أصدر سنة 1970 مقالة أخرى عنوانها الجهاز الصوري للحديث أو التلفظ(L’Appareil Formel de l’Enonciation) حيث شرح قواعد الحديث (التلفظ) (21).
وتكمن أهمية الدراستين في أنهما أثارتا من جهة مسألة الدلالة بتأثير من فلاسفة اللغة، ومن جهة أخرى فهي رصد للدلالة الكامنة وراء الملفوظ باعتبار أن الخطاب هو : «ملفوظ طويل، أو متتالية من الجمل، تكون مجموعة منغلقة يمكن من خلالها معاينة بنية سلسلة من العناصر» وهذا حسب تعريف ز. هاريس، أما بينفست فقد عرّفه بأنه: «كل تلفظ يفترض متكلماً ومستمعاً، وعند الأول هدف التأثير على الثاني بطريقة ما» (22).
تكمن أهمية نظرية التلفظ أنها دفعت باللسانيات إلى الاهتمام بالجانب الاستعمالي (أي الكلام) للغة (النظام أو النسق) ، وبالتالي فقد كان لزاماً أن تتجه نحو دراسة الدلالة انطلاقاً من اعتبار اللغة في جانبها الاستعمالي كبنية مغلقة . ومبحث الدلالة جاء لإكمال المشروع اللساني العام، الذي استنفد المباحث المتعلقة بعلم الأصوات، والمعجم الذي يتناول المفردة، ولسانيات الجملة أي علم التراكيب، ليأتي الدور لعلم الدلالة ، مع الانتقال بالبحث إلى مدونة أكبر هي الملفوظ لدراسة التلفظ (l’énonciation) والتداول (la pragmatique) : «وبهذا نفهم ما يقوله اللغوي الألماني الكبير لوسبرغ (Lausberg) من أن البلاغة تشير إلى اللغة، وهي الوسيلة القارة التي يعبّر عنها الكلام. فاللغة بدون كلام تصبح ميتة، والكلام بدون لغة لا إنساني، إذ إن اللغة والفن والحياة الفردية والاجتماعية تقدم نموذجاً واضحاً من التعالق الجدلي بين اللغة والكلام» (23).
أما التوجه الثاني فهو ذلك الذي تمثله مدرسة باريس من خلال أبحاث أ.ج. غريماس في السيميائيات السردية إلى جانب ر. بارث، ج. كريستيفا، ج.ك. كوكي... وغيرهم ممن أعطوا دفعاً للسيميائيات السردية ، والسيميائيات بصفة عامة، وإن كنا نؤكد بأنها سيميائيات سردية لأنها اهتمت بالسرود في إطار لساني يكاد يكون بحتاً؛ بمعنى أنها استمرارية للسانيات البنيوية، لأنها لم تتبنَّ بعض المبادئ اللسانية فقط، بل إنها فصلت في مسألة العلاقة بين اللسانيات والسيميائيات، فالسيميائيات بالنسبة لها فرع من فروع اللسانيات بتأكيد من بارث نفسه، لا لشيء سوى لأن إحدى خصائص لسانٍ ما قُدرته على ترجمة الألسنة الأخرى وكل السيميائيات الأخرى غير اللفظية (24).
وهي الفكرة نفسها التي ذهب إليها ر. جاكبسون (R. Jackobson) حين قال: «بأننا لا نستطيع أن ندرك الدلالات إلا بواسطة الألسنة الطبيعية» (25)، لهذا السبب فإن ر. بارث حين عزم على إعداد نظام الموضة، اضطر إلى تحليل الخطاب حول الموضة في صحف الموضة لا في الموضة في حد ذاتها (26).
لقد تفطن هؤلاء وغيرهم إلى مكانة اللغة كمركز للبحث السيميائي، ما جعلهم يتقدمون في البحث السميالساني (السملسني) (27)، جاعلين السيميائيات فرعاً من فروع اللسانيات، لأنها نظرية للدلالة كما ذهب إليه غريماس (28)، شريطة أن يعتمد المحلل في تحليل الخطاب، التحليل المحايث لبنية النص، كمبدأ للإمساك بدلالة النص التي تخضع لمجموعة: «قوانين داخلية خاصة مستقلة عن المعطيات الخارجية» (29) وأن: «التحليل السيميائي يتأسس على النص» (30).
ويمضي غريماس قدماً للتأكيد أن النص مجرد بنية مغلقة، تاركاً المشروع السيميائي تابعاً للسانيات، وهذا عندما يؤكد مفهوم البنية، يقول: «يتمثل المصطلح القاعدي للسيميائيات في البنية المحددة بوصفها شبكة من العلاقات المضمرة في التجلي» (31).
لعلنا نسجل الاختلاف عند ج. كريستيفا. ففي دراستها الموسومة بـ : «علم النص» تؤكد كريستيفا أن اللسان هو نسق خاص من ضمن الأنساق السيميولوجية، وبمعنى آخر فإن السيميائيات هي الأصل واللسانيات فرع، عكس ما ذهب إليه بارث، وبذلك تؤكد كريستيفا ما سبق أن أكده دي سوسور نفسه عندما جعل من اللسانيات فرعاً من فروع البحث السيميائي، يقول سوسور: «اللغة نظام من العلامات التي تعبّر عن أفكار (...) فهي مماثلة للكتابة وأبجدية الصم (...) تبقى اللغة أهم الأنظمة (...) يمكن أن نؤسس علماً يدرس حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية سنطلق عليه اسم علم العلامات أو السيميولوجيا (...) ولا يعدو علم اللغة أن يكون قسماً من هذا العلم العام» (32).
لكن رغم أن كريستيفا تردّ الاعتبار للسيميائيات التي تمنحنا أرضية خصبة لبلورة خطاب قادر على إنتاج معرفة خاصة بالاشتغال النصي، ومحاولة فهم بناء هذا الخطاب، ووضع نظرية تحليل سيميائي للنصوص المعتمدة على اللغة الشعرية التي تبقى منفلتة عن كل تحديد أو تنظير علمي يسمح لنا بفهمها، وفق أطر مشتركة ومتقاربة، لهذا فالتحليل سيكون في لحظة انغلاقها وتجسدها في فضاء النص الأدبي الذي غالباً ما يشحنها بدلالات متجددة، لهذا فأي دراسة للنص لا بدَّ وأن تشتغل في حدود اللسان (اللغة) التي تتجاوز لأنها وسيلة تواصل وتفاهم إلى وسيلة لتسجيل خطاباتنا وأحلامنا من خلال الأدب الذي أصبح الفعل الإنساني الوحيد الذي بإمكانه استيعاب كيفية اشتغال اللغة من خلال ما نسميه النص (33) من خلال التنظيرات التي تقدمها، إلا أنها حينما تطبق تؤكد هي الأخرى التناول المغلق للنص ـ البنية ، فقد طبقت على رواية «جيهان دو سانتري» لأنطوان دولوسال التي ألّفها في القرن الخامس عشر (1456)، لتثبت في دراستها هذه بأن العمل الأدبي ينتمي إلى الممارسة السيميائية للدليل يكون باعتباره إيديولوجيماً منتهياً ومغلقاً، وما الرواية سوى تمظهر مميّز لهذا الإيديولوجيم الملتبس بالدليل المتميز بالانغلاق ، نلمس هذا الانغلاق من خلال مقدمة الرواية التي تلخص مسار الرواية كلها حيث يعرف الكاتب هوية نصه بـ «ثلاث قصص» وكرسالة موجهة إلى جيهان أنجو، لينتقل إلى كتابة الحلقة الأولى التي تضم مجموع النص وكذا البرنامج كواسطة تبادل، أي كدليل، إنها حلقة الملفوظ موضوع التبادل ـ المُرسل إليه المباشر الدوق، وغير المباشر أي القارئ، لينتقل بعدها إلى تفاصيل الحكي الذي يتناول حياة جيهان دوسانتري، على النحو الذي يمكّننا من معرفة كيف تنتهي الرواية قبل أن تبدأ بطرح الأحداث التي تدور في الفاصل بين الولادة والموت، وبالتالي فالرواية ستكون انزياحات تؤكد يقينية الحلقة الموضوعاتية (حياة ـ موت)، وموضوعاتها لا تخرج عن طابع اللعب على المتعارضين المتنافرين (فضيلة/رذيلة، حب/كراهية، مديح/نقد..) لممتلكين للمحور المعنمي نفسه (موجب/سالب) (34).