كتاب " البلاغة وتحليل الخطاب "، يتمحور موضوع الكتاب حول إشكالية النسق السيميائي للخطاب الاستعاري، وهو خطاب يفترض فيه أنه منفتح على القراءة والتأويل، لأنه يمثّل خاصية أساسية في اللغة الطبيعية في جوانبها: التمثيلي، الدلالي، والتداولي.
قراءة كتاب البلاغة وتحليل الخطاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البلاغة وتحليل الخطاب
مقدمة
يتمحور موضوع الكتاب حول إشكالية النسق السيميائي للخطاب الاستعاري، وهو خطاب يفترض فيه أنه منفتح على القراءة والتأويل، لأنه يمثّل خاصية أساسية في اللغة الطبيعية في جوانبها: التمثيلي، الدلالي، والتداولي.
وفهم الخطاب لا يتم إلا بالنظر إلى هذه الجوانب الثلاثة في تفاعلها فيما بينها، لتعلقها بأطراف التواصل الثلاثة: المخاطِب والبنية والمخاطَب. وهي أطراف يفترض أنها متفاعلة فيما بينها، تسعى إلى إتمام العملية التواصلية.
وافتراض انفتاح النسق، يعني انفتاح النص على عدة قراءات وتأويلات، قد يصعب الإلمام بها، أو الحد من انبعاثها. وهو افتراض نعتقد أنه مؤسس انطلاقاً من أن التأويل لا يتعلق بالقارئ فقط، وإنما يتعلق أولاً بالكاتب (المخاطب)، لا لشيء سوى لأنه يقوم أولاً بعملية تأويل لأشياء الواقع المشار إليه من خلال اللغة، وتتم العملية التأويلية خصوصاً عندما يتجاوز المخاطب رصد المعاني المألوفة، والمعطاة قبل عملية الكتابة إلى الدلالة التي تبنى انطلاقاً من رصد علاقات مختلفة بين أشياء واقعية (مرجعية)، قد لا تبدو واضحة للإنسان العادي، فيبدو له الواقع واللغة التي تمثله عبارة عن رموز سريالية، تتجاوزه فيتجاوزها، لكنها مزية متأتية للكاتب الذي يطوع نظام اللغة ومعها أشياء الواقع، فيربط فيما بينها لينسج من خلالها قطعة صغيرة من هذا العالم تسمى نصاً، وهي قطعة لا يمكن في أي حال من الأحوال النظر إليها منفصلة عن عالمها. والنص تمثيل لتفاعل ذات الكاتب مع أشياء العالم، يبدو وفقاً لهذا المنظور منفتحاً على قراءات متعددة، نظراً لانفتاحه الممتد على مساحات وأشياء كثيرة، وفق نسق محكم.
وعليه فافتراض هذا الانفتاح في الواقع الذي يعد ـ وفق هذا ـ بنية نصية كبرى، هي أصل كل البنيات النصية، الفرق بينهما أن البنية الكبرى تومئ إلينا بدلالاتها الكامنة فيها، من خلال علامات سيميائية غير تمثيلية، أو الأحرى لا يمكننا التحكم في تمثيلها، في حين أن البنية الصغرى تعتمد نظاماً سيميائياً خاصاً، يبدو التحكم فيه ممكناً، نظراً لتميزه بمجموعة خصائص تجعله يتبوأ صدارة الأنظمة العلامية الأخرى، لأنه النظام الوحيد الذي يمكنه التعبير عن كل الأنظمة الأخرى، التي تلعب دور المرجع المشار إليه.
وبتعبير آخر: البنية النصية هي تناص لهذه الأنظمة الواقعية المنفتحة، وبالتالي فالنص يفترض حين خروجه من يد الكاتب إلى يد القارئ، أن يكون منفتحاً هو أيضاً، بغية الوصول إلى مقاصد الكاتب، ثم تجاوزها إلى مقاصد البنية، ومقاصد القارئ، وفق سيرورة تأويلية قد تكون لا متناهية، تبعاً للسيرورة التدليلية للنص، وهو ما نلمسه خصوصاً في النصوص المركزية (المحورية) أو النصوص الخالدة، لمجتمع ما وثقافة ما، مثل القرآن الكريم الذي يُعد نصاً مركزياً خالداً في الثقافة العربية الإسلامية، وفي الثقافة الإنسانية بصفة عامة، باعتباره رسالة إلهية، ذات بعد حضاري إنساني، وباعتبار أن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة النص بحسب تعبير نصر حامد أبو زيد.
لهذه الأسباب، ارتأينا النظر وتحليل الخطاب الاستعاري المتعارض مع الخطاب التقريري التسجيلي، وإن كنا قد قلصنا المسافات بين الخطابين، بافتراض هيمنة الخاصية الاستعارية على كل الخطابات، انطلاقاً من فكرة أو ملاحظة مبدئية أن كل نظم أو تأليف هو استعارة لأنه إبداع، والإبداع خروج وتجاوز للمألوف، أو الأحرى هو تجاوز للمعنى إلى الدلالة.
غير أننا ملزمون بالاحتفاظ بثنائية التقرير (المعنى) والإيحاء (الدلالة)، نظراً لشيوعها من جهة، ولوجود علاقة ما تبادلية ـ إن صح التعبير ـ قائمة بينهما، من منطلق أن التقرير هو في أغلب الظن استعارة ميتة، أماتها التداول، في حين أن الإيحاء هو استعارة حية، أحياها الاستعمال الذاتي للكاتب، وهي تموت بمجرد أن يتم تداولها، ويشيع استعمالها، وتنتشر بين الناس، فتقيد دلالتها في المعجم، وفق السياق الذي وردت فيه، ولعل هذا ما يعطينا فكرة عن نشأة اللغة، وهي فكرة سبق وأن طرحها ابن جني الذي قال: إن اللغة هي كلها عبارة عن مجاز . ورغم أن فكرته هذه بقيت محض افتراض لصعوبة تتبع التطور اللغوي إلا أنها تبقى مهمة بالنسبة إلى بحثنا هذا.
وتصبح الدلالات بدورها مادة (معاني) تشتق منها الدلالات في أشكال أخرى متعددة، وهذا انطلاقاً من ثنائية هيلمسلافية ثانية، هي المعنى كمادة تشتق منها الدلالات كأشكال للمعنى، فحري بأي قارئ أن ينتقل إلى الدلالة، انطلاقاً من معرفته المسبقة بالمعنى.
إن مفهوم الخطاب الاستعاري، يتجاوز استعارة، اللفظ إلى استعارة النص، رغم أهمية اللفظ (أو الكلمة) التي تعد النواة الأولى لأي خطاب، بيد أن الكلمات لا تكتسب استعاريتها إلا إذا وضعت ونظر إليها في إطار النظم ككل، من منطلق أنها تحيل على موضوع خارجي، لا يمكن النظر إليه إلا في إطار الموضوعات الخارجية الأخرى، التي تتعالق معه وفق طرق مختلفة، فتمنحه تكاملاً داخل نسقه العام، أي في علاقته مع باقي الموضوعات، والإقرار بهذه العلاقة بين النص الاستعاري ومرجعه الذي ينطلق منه ليحيل عليه، يتأتى من افتراض أن الاستعارة تتجاوز كونها رصداً للتشابهات بين موضوعين لعلامتين سيميائيتين من طبيعة غير لغوية، إلى رصد التطابقات بين الموضوعين، وبين اللغة الاستعارية وما تحيل عليه.
ومصطلح الخطاب الاستعاري (Discours métaphorique) أطلقه ر. جاكبسون (R. Jakobson) في حديثه عن الشعرية في الأدب، حيث ميّز بين الشعر على أنه خطاب استعاري، يتوسل بالاستعارة، وبين النثر الذي يعد خطاباً كنائياً (Discours métonymique) ، وهذا التمييز وإن كان مختلفاً، فإنه لا يخرج عن التقاليد البلاغية الأوروبية ذات البعد الأرسطي، في دراستها لنظرية الاستعارات التي عرفت امتدادات كثيرة ضمن البلاغة الغربية، التي تضع الاستعارة على رأس جميع الصور البلاغية ، وهو تقليد سار عليه جميع البلاغيين الأوروبيين، انطلاقاً من أرسطو وإرثه البلاغي الذي ضمنه كتابيه: كتاب «فن الشعر» أو «بويطيقا» وكتاب «فن الخطاب» أو «ريطوريقا» بصفة خاصة.