قراءة كتاب البلاغة وتحليل الخطاب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البلاغة وتحليل الخطاب

البلاغة وتحليل الخطاب

كتاب " البلاغة وتحليل الخطاب "، يتمحور موضوع الكتاب حول إشكالية النسق السيميائي للخطاب الاستعاري، وهو خطاب يفترض فيه أنه منفتح على القراءة والتأويل، لأنه يمثّل خاصية أساسية في اللغة الطبيعية في جوانبها: التمثيلي، الدلالي، والتداولي.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 10

ـ نموذج غريماس

ولنعد إلى مدرسة باريس السيميائة، لنركز اهتمامنا على الدراسة الباهرة التي اقترحها أ.ج. غريماس، وطبقها على إحدى قصص موباسان المعنونة بـ «الصديقان»، وقبلها وتحديداً سنة 1973 نشر دراسته: «الوصف والسردية في الخيط لجي دي موباسان» (43).
«ألا يحقق غريماس ثنائية النص/القارئ بامتياز كبير، ويعد بذلك قارئاً أنموذجياً لأنه وببساطة استطاع ربما للمرة الأولى التي يحدث لنا فيها الانطباع بأن تحليل النص الأدبي يشبه الأعمال التطبيقية العلمية في الفيزيولوجيا أو علم التشريح مثلاً. النسيج السردي يبسط، يثبت على ورقة كما لو أنه مشدود بالدبابيس، ويجلي كل ما له من ليفات وعروق، وشبكات خفية» (44). غير أننا انطلاقاً من دراسته هذه ودراسات أخرى له نسجل عليه بعض المآخذ، تضاف إلى تلك التي ذكرناها سابقاً، لإثبات افتراضنا بأن كل نص أدبي هو خطاب استعاري وهو خطاب ينفلت دوماً من أي تنظير أو نسقية نهائية لدلالته.
ولنقل بأن: «القراءة النسقية التي اختارت مبدأ المحايثة ضمن منهجها التصوري آلت إلى مأزق النص. النص ليس نسقاً مغلقاً؛ وإن كان قُدّ من كيان لغوي فسيظل نسقاً مفتوحاً مليئاً بالفجوات والثغرات، وهذا سرّ جماليته وأساس أدبيته، بل إن شعرية الغياب وجمالية الفراغ الباني تشكلان قوامه الجوهري» (45) لكننا سنكون متمهلين في الحكم على صحة الفرضية من عدمها، ما لم تستقم مقاربتنا التطبيقية ومعها المنهج الذي نتبعه في تحليل مدونتنا، وما لم نوضح بعض الإشكالات التي تختمر في الذهن دون أن تجد إجابة، يأتي على رأس هذه الإشكاليات إشكالية المحايثة والتأويل، أوليست سيميائية غريماس بحثاً في الدلالة وفي الدلالة التوليدية على وجه الخصوص، وهو ضرب من التأويل في إطار البنية؟ أليست البنية المحايثة رسماً لحدود التأويل ومسافاته؟
إن مصدر هذه التساؤلات يتأتى أولاً من قناعتنا بأهمية المنهج السيميائي لغريماس، ومن جهة أخرى، نجد عملياً أن بحوث غريماس هي أساساً بحوث في المعنى، كما أنه لا يجد حرجاً في استعمال لفظة تأويل، خصوصاً عندما يتحدث عن الدلالة التوليدية، وهو ما عايناه في دراسته الموسومة: موباسان سيميائية النص: دراسة تطبيقية: (la Sémiotique du Maupassant : texte) حيث يقول في خاتمة الدراسة: «بداية تحليل النص كان مقطعاً ـ لأنه يتعلق بمقاربة استقرائية وتأويلية ـ كان من الممكنأن تكون مطولة من خلال مسار بنائي يبحث عن إعطاء تمثيل منطقي للدلالة» (46).
نلاحظ من خلال هذا المقتبس إقراراً واضحاً بأن السيميائية هي بحث استقرائي وتأويلي للمعنى، وهذا ما تؤكده آن إينو (Anne Henault) في الفصل الأخير من كتابها «تاريخ النصوص السيميائية»، تقول: «إن الأعمال الأخيرة لغريماس تجتهد في إعادة تأويل من منظور هيئاتي (ولا صيغي) * كل ما يتعلق بدائرة الإحساس (الموضوعاتي) * والإحاطة إلى جانب تشكيل الهيئاتي للمستوى الخطابي (الطرق المتنوعة للإسهام في وجود الفضاء، الزمن، وسير الممثلين) بالهيئيات العميقة المتعلقة بالتقويمات المتنوعة» (47).
وبما أن آن اينو تتحدث عن إعادة تأويل، فبالضرورة هناك تأويل كان عندما يقوم التحليل على منظور صيغي: (إرادة الفعل، وجوب الفعل، قدرة الفعل) المتعلق بالبرنامج السردي وبالمكوّن السردي عموماً... أما إعادة التأويل فتتعلق بالتشكيل الهيئاتي (الفضاء، الزمان، المكان) المتعلق بالجانب الخطابي ، أي إننا نلمس دعوة ضمنية من آن إينو إلى التوجه نحو تبئير التحليل على المكوّن الخطابي بدل المكون السردي، الذي نال حقه من التحليل، وهو انطباع يتملك الباحث من أول وهلة بمجرد أن يعاين التسمية: السيميائية السردية فلِـمَ لا السيميائية الخطابية؟.
وسنعود لاحقاً إلى المكوّن الخطابي، وكيف أن بإمكاننا قراءة الخطاب الاستعاري وتأويله انطلاقاً من منهج غريماس نفسه.
انطلاقاً مما سبق، نخلص إلى أن الدراسات التي تقابل بين القراءة (التحليل) المحايثة والقراءة التأويلية، دراسات غير مضبوطة، أو على الأقل غير مضبوطة في مقابلتها بين المحايثة والتأويل، وجعلهما على طرفي نقيض، وهذا ما سبق أن رصدناه من خلال تتبع الدراسة التي قام بها غريماس في إطار السيميائية السردية ، التي تؤكد مبدأ المحايثة كمبدأ من مبادئ التحليل السيميائي، إلى جانب تأكيده في دراسته لموباسان بأن مقاربته هي مقاربة استقرائية وتأويلية ، لا بدَّ من التمييز هنا بين الاستقراء والتأويل فالأول يتعلق بالبنية الدلالية التوليدية، وتتبعها داخل النص، بمعنى أن جملة مفتاح تولد لنا نصاً، وهذه الجملة المفتاح لا تخرج عن إطار الثنائية التناظرية (حياة/موت). وعليه فالتحليل استقراء وتتبع لتوالد الجمل المكونة لدلالية النص، في حين أن التأويل هو عملية قراءة للبنيات المولدة للدلالة. فمثلاً إذا سلمنا بوقوع النصوص تحت ثنائية الموت/الحياة، كبنية عميقة لنص ما تتناسل منها كل البنيات، فإن حدث وأن رصدنا بنية تناظرية من مثل: أبيض/أسود، فإننا ملزمون حين تأويلها بالنظر في القيمة الدلالية للألوان، لمعرفة علاقتها بالبنية الكبرى: حياة/موت.. ففي أغلب الثقافات الإنسانية يعد السواد لون حداد، والبياض لون فرح، وقد تشذ بعض الثقافات عن هذه القاعدة، فأسلاف الإسبان الأندلسيون مثلاً يرتدون البياض حداداً، وهو ما نستدل عليه من خلال هذه الأبيات الشعرية:
يقولون البياض لباس حزن
بأندلس، فقلت من الصواب
ألم ترني لبست بياض شعري
لأني قد حزنت على الشباب
لا بدَّ للمحلل إذن من أن ينظر بجدية إلى مثل هذه المسائل، المتعلقة أساساً بموسوعة النص، وظروفه السوسيو ثقافية ، لكي يتمكن من رصد رمزية الألوان وفهمها، وعليه يغدو التأويل ضرورة ملحة، بعدما يتم تتبع المسار التكويني للنص، بحثاً عن المنطق الدلالي.
وبالتالي فالسيميائية السردية تضعنا أمام تحليل تأويلي محايث لا يخرج عن إطار البنية النصية، وعما هو معطى نصي، دون الاعتماد على القراءات السياقية التي انتفضت عليها السيميائية وظهرت كردة فعل عليها، لكن لم تلغها تماماً بل اغترفت بعض مفاهيمها، كما فعلت جوليا. كريستيفا في تنظيراتها للسيميائية التحليلية (lasémanalyse) بتأثير من علم النفس الفرويدي لتؤسس لـ : «ميلاد السيميائية الجديدة المسمّاة السيميائية التحليلية بالاكتشاف الفرويدي للاّوعي» (48).
يمنحنا التأويل المحايث خطوطاً ومسافات أو حدود التأويل التي ينبغي للتحليل أن لا يتجاوزها وهي بنية النص وسياقه الداخلي. لكن هل هذا كاف للإلمام بدلالة النص، وهل يمكن حصر التأويل النصي في حدود تأويل نسقي ؟.

الصفحات