كتاب " المسرح في العراق " ، تأليف أديب القلية جي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ،ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب المسرح في العراق
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ابراهيم جلال
نظر حفار القبر إلى الجمهرة الكبيرة التي تنتظر، تعجب من هذا الحشد، واكد لنفسه، انه لابد أن يكون للمتوفى شأن هام. ومع هذا لم يستطع السكوت دون أن يسأل وبصوت عال عمن يكون صاحب هذا القبر؟ فرد عليه الفنان يوسف العاني الذي كان قريبا منه انه ساحر المسرح، ساحر المسرح. فسأل الحفّار ثانية: ومن يكون هذا الساحر؟ انه إبراهيم جلال. أجابه العاني. نعم ساحر المسرح، وهي التسمية الأجمل والاهم والأدق لفناننا الكبير الراحل إبراهيم جلال المميز بأصالته و قوة ملاحظته، وعمقآراءه، والجماليات التي يحملها في أعماقه دائما. انه ساحر يرسم كل شيء بإبداع وادراك فني عالي المستوى ندر مثيله.
إبراهيم محمود جلال من مواليد بغداد عام 1921، من ابرز رواد المسرح العراقي، وصاحب البصمات الهامة في الحركة المسرحية العراقية الناضجة، وله يعود الفضل في كل الأعمال الفنية المؤسسة على اعتبارات علمية وفنية مدروسة.
دخل معهد الفنون الجميلة – فرع التمثيل عام 1940 في الدورة الاولى للفرع بعد تاسيسه من قبل الفنان حقي الشبلي، وتخرج منه بامتياز عام 1945، وقبل دخوله المعهد التقى بالرائد حقي الشبلي بعد عودته من فرنسا عام 1939، وقام الشبلي بجمع بعض الشباب المحبين للمسرح، مع بعض الفنانين الشباب، واسس جماعة فنية تحت إشرافه لتقديم مسرحية (فتح الأندلس) من تاليف محي الدين الخطيب، وكان الفنان إبراهيم جلال من ضمن هؤلاء الشباب وقد مثّل في المسرحية التي قُدمت على مسرح دار المعلمين الابتدائية في بغداد لمدة أربعة ايام، وكان الفنان جعفر السعدي يمثّل في هذه المسرحية ايضا.
وساهم الفنان الرائد إبراهيم جلال مع رفقاء له من خريجي فرع التمثيل في تاسيس (الفرقة الشعبية للتمثيل) في 12 أب 1947، ومن هؤلاء الرفقاء؛ عبد الكريم هادي الحميد وعبد القادر ولي، وعبد الله العزاوي، وجعفر السعدي، وخليل شوقي، وعبد الستار توفيق، وصفاء مصطفى، وعبد الجبار توفيق وليوصبري الذويبي.
تم اختيار إبراهيم جلال مخرجا اول للفرقة إضافة إلى الفنان جعفر السعدي وذلك اعترافا بإمكاناتهما وموهبتهما الفذة وثقافتهما الواسعة وسعة معلوماتهما الفنية وقدرتهما على قيادة أعمال مسرحية ناجحة ومؤزرة.
مثّلت مسرحية (شهداء الوطنية) باكورة إعمال الفنان المخرج إبراهيم جلال، وهي من تاليف الكاتب الفرنسي (فيكتور ريان سادو )، وقد سبق لهذه المسرحية أن قُدمت على مسرحنا العراقي عدة مرات ولمخرجين متنوعين، لكن اختيار إبراهيم جلال مخرجا لها كان له أبعاده وامتيازاته. وكان إبراهيم جلال موفقا في تقديم المسرحية وناجحا في العملية الإخراجية، إضافة إلى قوة وطاقة الممثلين الذين لعبوا أدوارهم المسرحية بإبداع، ومنهم :خليل شوقي، إبراهيم جلال، جواد الساعدي، عبد الجبار ولي، وغيرهم. وجاء نجاح المسرحية بسبب قدرة المخرج الفنية، وافقه الفكري المتفتح، وبعد نظره، واستيعابه والمامه لعمله الفني. غير إن الفرقة الشعبية للتمثيل وكادرها الفني والإداري توقفوا عن العمل بسبب اوامر سلطوية عليا، لم تعجبها المسرحية، وعكرت مزاجها الأفكار التي طرحتها، وبالتالي أصدرت أمرها بايقاف عمل الفرقة حتى العام 1952 .
وفي هذه الفترة من الركود الذي تجاوز الثلاث سنوات، خرج الفنان إبراهيم جلال من الفرقة والتحق بمجموعة شكلها الفنان يوسف العانيفي كلية الحقوق تحت اسم (جبر الخواطر) وكانت هذه المجموعة نواة لعمل مسرحي كبير ومتواصل أدى إلى تاسيس فرقة المسرح الحديث عام 1952، وصار إبراهيم جلال رئيسا لها، واخرج اغلب مسرحياتها بدءًا بالكوكتيل المتنوع الذي قدم على مسرح طيني بنته الفرقة في جمعية النداء الاجتماعي في الأعظمية. والكوكتيل مؤلف من مسرحيتي (رأس الشليلة، وماكو شغل( ليوسف العاني ومسرحيتي (المثري النبيل، وطبيب رغم انفه) لمولير ، ومشاهد من مسرحية (عطيل) لشكسبير. وكانت تلك تجربة رائعة إنسجم معها الجمهور انسجاما كبيرا، وتمنى الجميع للفرقة المزيد من العمل الابداعي والنشاط المسرحي.
خاض إبراهيم جلال عام 1954 تجربتين جديدتين على نفس المسرح الطيني؛ الاولى (لو بسراجين لو بالظلمة) ليوسف العاني والثانية للكاتب الانكليزي (جون مدسن) بعنوان (الغرفة المشتركة)، وكان النجاح والتالق من نصيب هاتين المسرحيتين. ثم توقفت الفرقة عن عملها الابداعي بسبب تدخل السلطة وقرارها بتجميد عمل الفرقة لسنتين بسبب حساسية السلطة القائمة من المسرح ومن الأفكار التقدمية الناقدةوتدخلها (بدون حياء) في شؤون الفرقة وما تقدمه من نتاج مسرحي وفكري.
وفي عام 1956 عاد النشاط إلى الفرقة، وفي تحد ظاهر أخرج إبراهيم جلال مسرحيتي (أغنية التم) لأنطوان تشيخوف. وقام بأداء دور الممثل العريق (فاسيلي فاسيليفتش) الفنان سامي عبد الحميد، في حين قام الفنان يوسف العاني بتادية دور الملقن نيكيتا ايفانوفيتش، ومسرحية (ستة دراهم) من تاليف يوسف العاني و تمثيل سامي عبد الحميد، مجيد العزاوي وعبد الرحمن بهجت. ومثّلت معهم لاول مرة الفنانة الشابة أزاد وهي صاموئيل التي أعطت للمسرحية نكهة خاصة، هي نكهة الحياة المشتركة بين الرجل والمرأة، وهي النكهة الطبيعية التي يجب إن تسود بكل الأحوال وان يكون للمرأة مكانا مهما في المسرح لأنها تمثّل نصف المجتمع، نصف لا يمكن المساومة عليه او تجاهله، ليس على مستوى المسرح فحسب ، بل وفي شؤون الحياة عامة .
واندلعت ثورة 14 تموز 1958 وقضت على قلعة الدكتاتورية والرجعية واقامت نظاما جمهوريا أطلق الحريات العامة للناس وفتح أمامهم آفاق واسعة من الآمال والأحلام والعمل المثمر. واستقبل الفنان إبراهيم جلال ومعه فرقة المسرح الحديث خبر اندلاع الثورة بفرح غامر، وساندوها منذ لحظاتها الاولى، وايدوا ما جاءت به من قيم وقوانين جديدة تمس حياة أبناء وبنات وادي الرافدين. واقُدمت الفرقة على تقديم عمل مسرحي سياسي، تكشف فيه طغيان النظام السابق واجهزته القمعية. وكان العمل مسرحية (آني أمك يا شاكر) من تاليف يوسف العاني. وكلفت الفرقة فنانها المقتدر والمبدع إبراهيم جلال بإخراجها. ومثّلت فيها فخرية عبد الكريم (زينب )، وهذه هي المرة الاولى التي كانت تقف فيها على خشبة المسرح، بالإضافة إلى ناهده الرمّاح، أزاد وهي صاموئيل، سامي عبد الحميد، عبد الجبار عباس، وعبد الواحد طه. وقُدمت المسرحية على مسرح قاعة الشعب ـ(فيصل سابقا)، وبدأ العرض في 15 كانون الاول 1958، اي بعد قيام الثورة بخمسة أشهر وهو انجاز قياسي. واستمر العرض لمدة 18 يوما وبحضور حشود جماهيرية لم يسبق للمسرحان شهدها من قبل، وقيّم النقاد والفنانون جهد إبراهيم جلال وبراعة عمله الفني المتقدم، كما اثنى الجميع على العمل من جميع نواحيه.


