كتاب " تداعي الإسلام السياسي " ، تأليف سليمان تقي الدين ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب تداعي الإسلام السياسي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
التوازنات في المشرق العربي
تبلورت إلى حد بعيد توازنات القوى في المنطقة. لامست كل المشاريع السياسية سقوفها. هناك سعي لتعديل بعض الحدود الجغرافية والديموغرافية كمقدمة للتسويات التي يُعاد على أساسها بناء السلطة.
بلغ النفوذ الشيعي والإيراني مداه الأقصى في العراق ويحاول السنّة بدعم من الخليج العربي ترسيم حدود نفوذهم خاصة من بغداد إلى الشمال. وبلغ الحراك السني في سوريا ذروته شمالي شرقي دمشق واستطاعت الأقليات الاحتفاظ بالشريط الغربي لسوريا من الشمال حتى الجنوب. أما لبنان فاستقرت المعادلة فيه مع أرجحية نسبية للتحالف الشيعي الماروني جغرافياً وسياسياً.
ما يفيض عن هذه الخارطة اختراقات جزئية كأن يسعى الخليج العربي لتحريك ملف الأقلية العربية في منطقة الأهواز داخل إيران، أو أن يُثار ملف إقليم الإسكندرون العربي العلوي الذي اقتطع لتركيا، أو أن ينشأ تفاهم تركي مع الأكراد هو قيد البحث لزيادة منسوب التأثير التركي في العراق وسوريا تحت راية السنية السياسية. إلى ذلك تبقى نقاط رخوة للضغط كحال الشيعة في المملكة العربية السعودية، أو مملكة البحرين، أو إمارة الكويت، أو الحوثيين في اليمن. يقابلها استخدام الأردن إذا اقتضى الأمر للضغط على جنوب سوريا.
في الصورة الإجمالية هناك هلال سني مقابل هلال شيعي وفق المنظور الجيوسياسي. يبدو الطرف الشيعي أكثر قوة عسكرية، ويبدو الطرف السني أكثر قوة في محيطه الديموغرافي وتحالفاته. أصبح الصراع الآن إذا استمر يهدد باتساع رقعته الجغرافية ويجنح إلى إعادة النظر بكيانات الدول. والأرجح أنه لم يعد يخدم القوى الدولية الكبرى لأنه بدأ يلامس أمن النفط وخطوط إمداده ويفتح الأفق أمام حركات التطرف المسلحة كي تجد بيئات ملائمة لتوسيع نشاطها. بينما حققت الدول الكبرى معظم أهدافها وحصلت على نتائج تخدم مصالحها الأساسية.
في التوازن الحالي نجح الأميركيون في محاصرة المحور الإيراني السوري واستنزافه وفرض الانكفاء عليه، باستنهاض قوى مناهضة وبخلق أزمات ليس من السهل التعامل معها لعقود. ونجح الروس في الدفاع عن وجودهم الأمني والسياسي والاقتصادي وفرض الحوار مع الغرب على النظام الدولي الجديد.
لم ينجح العرب في تحرير إرادتهم السياسية من الوصاية الدولية، ولم تنجح حركات التغيير في التحوّل الديموقراطي الجذري أو الناجز. لكن الشعوب العربية طوت مرحلة الاستبداد والاحتكار السياسي للسلطة، وانطلقت في معركة الإصلاح في ظل واقع تعددي سياسي لا يمكن السيطرة عليه أو مصادرته. «نجحت التعددية ولم تنجح الديموقراطية». في المشرق العربي تظهّرت مكوّنات الشعوب من دون القدرة على تحويرها وطمسها تحت لافتات إيديولوجية. إذا كان ذلك مظهراً سلبياً من مظاهر المراحل الانتقالية، فهو مظهر مرتبط بالتوترات الأمنية والصراعات الإقليمية والدولية، وخاصة بالاحتباس السياسي السابق. ليس متوقعاً لهذه الفوضى، ولهذا التخلخل العميق في الأنسجة الوطنية، أن يستقرا في وقت قصير، لكنهما محكومان بأن يعيدا إنتاج أشكال التعايش ومنظومات الأمن والصيغ السياسية عندما يستنفدا قدرتهما على إنشاء معادلات غلبة جديدة. بهذا المعنى لا أفق في العراق وسوريا ولبنان لإحياء أنظمة ذات محور طائفي تدور من حوله الحياة السياسية. بل إن الأرجحية ذاتها لسبب من الأسباب تصطدم بوجود شرعية موازية لها في تمثيل الجماعات الأخرى. هكذا تبدو التسويات السياسية المقبلة في كل مكان عبارة عن أنظمة تعددية وتوازنات سلطوية يتعذر معها إنتاج هيمنة أو تسلّط مهما كانت النوازع قوية لذلك. وفي هذه المرحلة بالذات تدور معركة أحجام واستجماع أوراق أكثر مما هي معارك فاصلة إلغائية. أما كيف سيتم إخراج وتثبيت هذه المعادلات والمعطيات فذاك شأن يتقرّر لاحقاً وتدرجاً من التوافقات الدولية فالإقليمية فالمحلية. هذا الاستنتاج مؤلم وغير مرضٍ للقوى المحلية، لكنه واقع يستمد شرعيته من مكوّنات المنطقة ونزاعاتها.
لم تتكوّن في العالم العربي بعد حركات تحرّر وطني عابرة لحدود سايكس ـ بيكو وللبيئات الإقليمية والجهوية والطائفية. ولم تتوافر في أي من التيارات السياسية الفاعلة مقوّمات عميقة الارتباط بالجمهور الأكثري العربي حتى حين كان هذا الجمهور هو جمهور العروبة الوحدوية. أما وأن التيارات السياسية الصاعدة اليوم تجليات لمشكلات طائفية فهي عاجزة موضوعياً عن طرح مشاريع وطنية.
لن ينتج هذا المسخ الطوائفي حلولاً تتعدى انفراج العلاقات بين الجماعات وانتفاخاً للهويات ومأزقاً لها. غير أن حضور الجماعات بحريتها يظهر عجزها عن الاستجابة لحاجات جمهورها. فهذا النموذج اللبناني يغتذي استمراره من القلق والخوف والصراعات الإقليمية من غير أن يملك شرعية حقيقية لإدارة الاجتماع اللبناني بشكل سليم.
وبالفعل، لا تقدّم الطوائف في لبنان أسباباً موجبة لجمهورها تتعلق بتطوير نمط عيشها أو معالجة المشكلات المتفاقمة، بل تقدّم ذرائع تتعلق بمصائرها كجماعات والمخاوف المرتقبة من تكوين سلطات تفرض غبناً أو تعطي امتيازاً. هذه المخاوف بعضها حقيقي وبعضها مفتعل.
والصحيح القول إنها ناتجة أصلاً عن نزوع سلطوي لدى النخب أكثر منها قضايا لا تقبل الحلول والتطمينات. فهي مشكلات سياسية بأصلها لا مشكلات تعايش الجماعات. ولعل أسوأ ما نواجهه في الحال اللبنانية هو عدم الوضوح في طرح الهواجس والتغطية عليها بحجم هائل من التبريرات الخادعة. فلا حوار حقيقياً في لبنان، بل تفاوض على عناوين تبطن غير ما تضمر. ولقد صار واضحاً أن مطالب الجماعات المشروعة وجدت لها تعبيراً في «اتفاق الطائف» وما زال دستور الطائف لا يطبّق ويحاذر الجميع النزاهة في تفسيره، بدءاً من مواصفات قانون الانتخاب. والأحرى ألا نسأل عن دستورية قانون الانتخاب بل عن دستورية الدولة نفسها.
15/1/2013