أنت هنا

قراءة كتاب جراح مغتربة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
جراح مغتربة

جراح مغتربة

كتاب " جراح مغتربة " ، تأليف يحانث ماء العينين ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

مرت دقائق مشحونة بأسئلة لم تعرف لها جواباً.. تفشى بعدها خبر سقوط النظام.. تعالت صيحات النصر.. لكنها لم تشارك هذه المرة.. ظلت شاردة وسؤال الصحفي يتردد في ذهنها:

- «ماذا بعد النظام؟».

انتبهت إلى أنها ربما دافعت عن قضية ليست قضيتها. وقد أدركت ذلك متأخرة.. متأخرة جداً. هي تعلم أن المواطن العربي خلق كي يظلم ويستعبد. وأن هناك دائماً ظالماً يختبئ بين صفوف المطالبين بالحقوق، يتحين فرصة القضاء على ظالم آخر ليطفو على السطح، ليجرب آلات ظلمه على الرقاب والعباد.

الحرب في عالمنا ليست بين الخير والشر.. بل هي بين الأشرار أنفسهم. كل واحد يملك من الشر ما يميزه عن الآخر. كل له استراتجيته الخاصة لحقنسمه في قلب غريمه، والضحية دائمة هي الشعوب. تذكرت قول جدتها:

- ويْلٌ للضفادع إذا تعاركت الجِمال وسط البرِكة.

لم تستوعب جيهان ولا منايا كيف أن الشعوب العربية أدركت في وقت واحد الظلم الواقع عليها، وكيف تفشت حمى الثورات بهذه السرعة. كأنها جرثومة خبيثة زرعها أحدهم في حي سكني وانتشرت سمومها في العالم العربي بأكمله، وشوهت الأنظمة كلها، فأصبح زعيم الأمس مرفوضاً اليوم. ربما حتى الزعماء أنفسهم لم يفهموا سر توحد الشعوب المفاجئ للمطالبة بالحق المسكوت عنه لعقود، لذلك ترددت جملة فهمتكم كثيراً على لسان أحدهم لكن بعد فوات الأوان.

كانت منايا تكره السياسة دائماً، ولم تحاول قط خوض غمارها، ومع ذلك فقدت بسببها صديقتين عزيزتين .أحست الألم ذاته الذي غزاها منذ سنوات مضت. يومها كانت في بيت غريب عنها. بيت أبيها الذي لم يكلف نفسه يوماً عناء السؤال عنها، وهي ابنته التي تخلى عن أمها من أجل امرأة أخرى.

تتذكر ذلك اليوم حين وقفت أمام مرآتهاتتأمل نفسها وكأنها ترى صورتها لأول مرة، بعيون تحيطها هالات سوداء وشعر متقصف منسدل على كتفيها بإهمال، وأنفها الصغير المحمر من كثرة البكاء.لم تكن تقاطيع وجهها الجميل تدل إلا على الحزن والألم، فشكلت مع حنايا جسمها النحيل تلك الصورة المنعكسة على المرآة، فكانت أقرب إلى صورة شبح.

قالت محدثة نفسها بصوت مرتفع، مقلدة طريقة منى حين تناديها:

- منايا ماذا أصابك ياحبيبتي ؟

جاء صوتها مكسوراً مبحوحاً. ابتسمت بألم. طافت بها ذكرى منى وهزت أعمدة السكينة في نفسها. تذكرت منى الصديقة والأخت، فتنهدت وعادت إلى سريرها بخطى ثقيلة. استلقت فوق فراشها وأخذت تقلب عينيها في سقف الغرفة علها تعثر فيه على طيف أقرب الناس إليها. أمسكت رأسها بيديها محاولة طرد الذكريات اللئيمة الأليمة، ثم لجأت إلى دمعها المنهمر، علَّه يطفئ بعض الأوار المتقد بين جوانحها.

كانت تبحث في مخيلتها عن ذنب اقترفته، عساها تقنع نفسها بأن ما تعيشه من أرزاء، إنما هو جزاء مستحق. لكنها في كل مرة تفشل في الوصول إلى تعليلات مقنعة.

صار التغيير المفاجئ الذي عرفته حياتها مصدر قلقها واضطراب نفسيتها، رغم محاولاتها التأقلم مع وضعها الجديد. محاولات تخبئ بين طياتها ما لا نهاية له من الأحاسيس والصراعات النفسية.. كيف لا وقد كانت تعتقد بالأمس أنها الأوفر حظاً في هذا الكون، وهي محاطة بأحب الناس إلى قلبها.

فجأة وجدت نفسها وحيدة تعيش مع أشخاص لم تكن تراهم في السنة سوى مرات قليلة.. احتاجت إلى من يفهمها ويحس بها أو حتى من يتظاهر بذلك. كانت في أمس الحاجة إلى شخص يخبرها بأن هذه المرحلة ستمضي كسحابة صيف. ولأنها لم تجد ذلك الشخص، فقد جعلت مشاعرها سجينة قلبها الصغير، وترجمت آلامها بابتسامات هادئة ودموع صامتة، ومع مرور الأيام تعودت على فقدان إنسانتين كانتا أحب الناس إليها. لم تكن تتخيل أن نقطة تحول حياتها سـتأتي بتلك السرعة وبذلك السواد، وكيف ابتدأت المصائب تنهال عليها منذ اليوم الذي اتصلت فيه رباب بصوتها المشبع رعباً، لتطمئن أنهن في البيت.

بعد حصولها على الباكالوريا، سافرت منايا مع صديقتيها منى وربيعة إلى مدينة أكادير لمتابع دراستهن الجامعية. لأول مرة سيختبرن أنفسهن بعدما أصبحن قادرات على التحكم بمفردهن في اختياراتهن وقراراتهن، بعيدا عن أعين المجتمع الصحراوي. فلا الأهل ولا التقاليد ولا حتى أسرهن تستطيع الآن أن تملي عليهن ما يفعلن وما سيفعلن. فترة الجامعة لغالبية بنات الصحراء المغربية فرصة ذهبية للابتعاد عن سطوة الأهل، لاكتشاف الذات والتعرف على عوالم جديدة لم تتح لهن فرصة اكتشافها من قبل.

استأجرن بيتا صغيرا، قريبا من كلية العلوم القانونية والاقتصادية التي تدرس فيها رفقة ربيعة، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية التي تدرس فيها منى.. سالت سنوات الدراسة الجامعية سريعاً كنهر جارف، ولم يعد يفصلهن عن التخرج سوى نتائج آخر فصل دراسي. جلست منايا يومذاك تنتظر عودة صديقتيها من بيت خالة منى،كما كانت تعتقد، فجأة اتصلت رباب تسأل عن منى وربيعة.

ردت عليها باستغراب:

- لا ليستا في البيت.. ماذا هناك ؟

قالت رباب والخوف يطبع نبرات صوتها:

- أقفلي البيت جيداً وإياك أن تلبسي أي زي صحراوي، واتصلي بالبنات وأخبريهن أن يبقين حيث هن، فقد اتصل بي أخي تواً ليخبرني أن قوات التدخل السريع قد طوقت الجامعة ودخلت في اشتباكات مع الطلبة المتظاهرين أمام الكلية.

الصفحات