كتاب " المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ) " ، تأليف محمد عبيد السبهاني ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
(3) المكان عبر العصور الأدبية.
عرف الإنسان العربي بحبه للأرض وارتباطه بها وحنينه لكل مكان تركه، وهذه السمة نلمس آثارها لدى الشاعر العربي بشكل كبير، فجاءت أهمية المكان لكونه ((حقيقة معاشه، يؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه))([24]).
وفي شعرنا العربي نجد هذا الارتباط بالمكان منذ عصر ما قبل الإسلام ([*]) فكان الوقوف على الأطلال سمة بارزة لدى الشاعر الجاهلي وعنصرا لا غنى عنه بل ((هو جزء من كيان عضوي كلي يخضع لمطلقات القصيدة الكلية ولبنيتها))([25]) وجاءت أهمية المكان في هذا الشعر من هذه الظاهرة وأصبحت مستهلا وباعثا من بواعث أصالة القصيدة العربية، بل وبنية من أبنيتها التي عدت أساسا لتركيب القصيدة العربية للعصور التي تلت هذا العصر.
وكانت هذه الأماكن قد شكلت مجموعة مثيرات دعت إلى إثارة العواطف وتصوير انقلاب الحال والعودة إلى الماضي الضائع وإثارة الإحساس بعنف تجربة الحرمان من الاستقرار([26]). فنجد الشاعر باكيا الذكريات الخالية بمرارة وألم تارة، واصفا تلك الأماكن الدارسة تارة أخرى وكلا الأمرين يعكس لنا الاضطراب النفسي والأيديولوجي لدى الشاعر العربي. فهذا امرؤ القيس استوقفته الديار فحن إليها وبكى عليها حين قال في معلقته الخالدة:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لما نسجتها من جنوب وشمأل ([27])
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
فجدلية الارتباط بين الذات والمكان هي ما تقوم عليه هذه المقدمة فهما متداخلان في نسق سياقي واحد، وشكل وقوفه على تلك الأماكن عودة إلى الماضي، وإلى أيام الصبا فكانت هذه الأماكن باعثا لذكرى تلك الأيام وذلك الملك الضائع، فالمكان هنا المنفذ الوحيد للشاعر للهرب نحو كل ما هو جميل، والمثير الذي يولد كل هذه الاحساسات بل ويوثقها ويكسبها صدقا في العاطفة وعظمة في المشاعر ودقة في التعبير.
واتخذ عنترة بن شداد العبسي من المكان أيضا منفذا عاطفيا يلج من خلاله إلى وصف المحبوبة جاعلا منه بؤرة الحدث، ومركز الحديث فهو القائل:
طوع العناق لذيذة المتبسم ([28])
دار لآنسة غضيض طرفها
ومثلما هو منفذ عاطفي ووجداني للشاعر فهو دافع للغربة، وإثارة مشاعر الشوق، وعواطف الحنين إلى ديار الأهل والأحبة، يقول عنترة:
أقوى وأقفى بعد أم الهيثم
عسرا على طلابك ابنة مخرم
بعنيزتين وأهلنا بالغيلم ([29])
حييب من طلل تقادم عهده
شطت مزار العاشقين فأصبحت
كيف المزار وقد تربع أهلها
فهنا غربة مكانية قاسية ألمت بالشاعر وتركته في أحضان الشوق والحنين وهذا الحنين مرتبط بالمحبوبة، وشكل المكان باعث من بواعث الغزل والحنين، لأن المكان تتمحور دلالته وتبنى وظيفته في الشعر من خلال الأشخاص (المرأة، الممدوح، المرثي) كما ترتبط دلالته ووظيفته بالأحداث وتغيرها.
وقد ضمن الشاعر زهير بن أبي سلمى المكان كل معاني الألفة والحياة ورأى فيه الأنيس الوحيد بعد غياب الحبيب فهو القائل:
بلى وغيرها الأرواح والأيم
بالدار لو كلمت ذا حاجة صمم
كالوحي ليس بها من أهلها إرم ([30])
قف بالديار التي لم يعفها القدم
لا الدار غيرها بعد الأنيس ولا
دار لأسماء بالعمرين ماثلة
فالشاعر استوحى ألفته من الدار بعد غياب الحبيب وأصبحت أنيسه الوحيد.
وعكس المكان عند الشاعر الجاهلي صعوبات الحياة التي عاشها وقسوة الظروف الطبيعية التي عرفها، فكانت حياته حافلة بالمخاطر والصعاب ما لبث أن دونها في شعره، وأبان عن تجربته المعاشة بتجربته الشعرية فهذا لبيد بن ربيعة العامري يقول:
فما يحس به عين ولا أثر ([31])
وأقطع الخرق قد بادت معالمه
فهو يسير في مكان مجهول المعالم، مشتت ضائع، والذات تبحث عن نفسها وعن وجودها في هذا الوسط المكاني دون جدوى، لا تدري ولا تعرف إلى أين ؟ وكيف 000 ولماذا ؟ ويبقى المكان المثير لهذه المشاعر.
ونجد أن المكان قد جسد مظاهر العدائية فتذمر الشعراء وأخذوا يصرفون العنان إلى أماكن أخرى فهذا قيس بن الخطيم يقول:
يكون بها الفتى إلا عناء ([32])
وما بعض الإقامة في ديار
وتثير الأطلال والأحزان والآلام لدى الشاعر وتمد الشاعر بخزين ((مثقل بالذكريات، وفيه دائما صلة تشد الشاعر إلى ماضي حبيب إليه)) ([33]) فهذا النابغة يرى في دار الحبيبة بعد أن أقوت وأضحت خالية من الأنس أحس بالتمزق والضياع والوحشة فذهب قائلا:
أقوت وطال عليها سالف الأبد
عيت جوابا وما بالربع من أحد ([34])
يا دار مية بالعلياء فالسند
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها
وفي تجربة الصعاليك نجد للمكان بعدا آخر، فالمكان (الصحراء) بالنسبة لهم دار إقامة، فكان له الأثر السلبي والإيجابي في الوقت نفسه على حياة هؤلاء الصعاليك، أما الجانب السلبي فتمثل بالنظرة العدائية للمجتمع بعد أن عانوا من الظلم والاضطهاد والتشرد من قبل قبائلهم والتي ألقت بهم في غيابات الصحراء المترامية الأطراف، والجانب الإيجابي تمثل في كون هذا المكان – الصحراء – قد خلق منهم رجالا أقوياء يمتازون بالشجاعة والصبر، لأن حياة الصحراء ((تربي في نفوس أبنائها صفات الشجاعة والجرأة والكبرياء العنيدة، كبرياء الرجال الأحرار)) ([35]) فهذا تأبط شرا يألف المكان وما فيه من الوحوش حين قال:
ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا
فلو صافحت أنسا لصافحنه معا ([36])
يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه
رأين فتى لا صيد وحش يهمه
أما الشنفرى فهو الآخر يصرخ صرخة تحد في مواجهة الصعاب حتى يجعل من وحوش الصحراء أهلا له فهو القائل:
فإني إلى أهل سواكم لأميل
وأرقط زهلول وعرفاء جيال
لديهم ولا الجاني بما جر يخدل ([37])
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
ولي دونكم أهلون سيد عملس
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
خلاصة القول أن المكان كان باعثا من بواعث قول الشعر وجسد دلالات مختلفة لدى الشاعر الجاهلي فمثل الألفة والعدائية والغربة والحنين أما الغرض الشعري فكان مقترنا به فلا تذكر الأطلال إلا وتذكر المرأة وكأنهما شيئان متلازمان أحدهما مكمل للآخر.
أما في عصر صدر الإسلام فقد كان ظهور الإسلام حدثا كبيرا في حياة العرب، ولا بد لهذا الحدث أن يؤثر بالشعر لكونه لسان حال الأمة في تلك الحقبة، ومن مظاهر هذا التأثير هو اختلاف رؤية الشاعر تجاه المكان، فأصبحت رؤية مشحونة بتيار إسلامي وأخذ الشاعر يلهج في ذكر الأماكن المقدسة بعيدا عن أماكن اللهو والغزل والمجون وربما كان ذلك مرده إلى ((تواري الشعراء خجلا وآثر الانزواء حياء أمام دوي الدعوة الجديدة، وحيال سلاسة أسلوب كتابها العزيز)) ([38]) وأصبح الأمر مختلفا تماما بعد مجيء الإسلام ((وصار الذي يقول الشعر أو يخطب في المجامع أو يتحدث في المجالس لا ينطق إلا بحذق ولا يقول إلا بميزان فلا يتلفظ بهجر مزر أو أدب معيب أو كلام هزيل أو بيان مرذول)) ([39]) وصدى هذا الحدث واضح في أشعار حسان بن ثابت رضي الله عنه حين قال:
منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وربع له فيه مصلى ومسجد
من الله نور يستضاء ويوقد
أتاها البلى فآلاء منها تجدد
وقبرا به واراه في التراب ملحد ([40])
بطيبة رسم للرسول ومعهد
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة
وواضح آيات وباقي معالم
بها حجرات كان ينزل وسطها
معالم لم تطمس على العهد أيها
عرفت بها رسم الرسول وعهده
فهنا يقف الشاعر على هذه الأمكنة المقدسة، إنها ليست آثار الجاهلية وأطلال الحبيبة، بل هي ديار الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فيذكر (طيبة مدينة الرسول) ويبكي الآثار ولكن شتان ما بين البكائين – بكاء الجاهلية والإسلام – وآثار هذا المكان بعيدة كل البعد عن آثار الجاهلية فهي ليست أماكن للحبيبة أو آثار الأهل الراحلين عنها بل هي آثار وأماكن واضحة المعالم شاخصة لا تغيرها صروف الزمان إنها شعلة النبوة وآثار المسجد التي تتوهج كلما مر عليها الزمان، وتلا فيها المسلمون آيات الذكر الحكيم، إنها أماكن الرسول تضيء نورا في الأذهان وفي القلوب فرسومها باقية وآثارها متجددة في كل وقت وحين.
ويأتي المكان في شعر الحطيئة، ليعبر عن معاناة قاسية عاشها في السجن وكان ذلك أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن هجا الزبرقان بن بدر، فترك ذلك المكان أثرا سيئا في نفسه، وما من سبيل إلا أن يرسل أبياتا شعرية يستعطف فيها الخليفة، ويذكر بها حاله وحال أولاده ويلجأ أيضا إلى وصف للمكان بأنه قعر مظلم:
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ألقت إليك مقاليد النهى البشر ([41])
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
غيبت كاسبهم في قعر مظلمة
أنت الأمين الذي من بعد صاحبه
فنلاحظ الوصف المأساوي للسجن والذي انعكست آثاره على نفسيته وحاول جاهدا إظهار هذه المأساة من خلال وصفه، وليجد فيه منفذا للخروج من هذا المأزق.