كتاب " المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ) " ، تأليف محمد عبيد السبهاني ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
المبحث الأول :المكان والغزل
الغزل من الأغراض الشعرية المحببة إلى النفس، فهو يصور أشواق المحبين ولواعجهم، ولم يحفل العرب بشيء احتفالهم بالغزل، وهو من أصدق أنواع الشعر عاطفة، صور فيه الشعراء أشواقهم وإحساساتهم نحو المرأة تصويرا للنفوس وكشفا لدواخلها ([73]).
والشاعر العربي رأى ((أن المرأة هي جماع مظاهر الجمال وصوره فهو لا يشهد غيرها في حياته الرئيسية وهي تكاد تكون لذلك محور اهتماماته النفسية ووثباته العاطفية)) ([74]). وكان الغزل اللغة الناطقة لاستمالة تلك المرأة وجذب عواطفها.
ويمكن القول إن الأندلس قد ازدهر فيها شعر الغزل وكان مرده إلى البيئة الأندلسية ((حيث امتزج العرب بسكان الجزيرة الأندلسية وعاشوا حياة حضرية ناعمة أغرتهم بشتى وسائل اللهو والمجون وحررتهم من كثير من الأغلال والتقاليد الموروثة ثم إن الأندلس كان لها حظ كبير من الجمال البشري كحظ بيئتها من الجمال الطبيعي، مما استرعى أنظار العرب ونبه عواطفهم)) ([75]).
فقد جسد المكان فاعليته في الغزل بكونه المدخل الأساس الذي يلج من خلاله الشاعر، كي يظهر المكونات الخفية التي تختلج في نفسه فأصبح جزء من الغزل وسببا من أسباب وجوده، وإلى هذا المعنى ذهب ابن قتيبة (ت:276هـ) بقوله: ((وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الضاعنين عنها 000 ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد، وألم الفراق وفرط الصبابة والشوق نحو القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن النسيب قريب من النفوس لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وألف النساء)) ([76]) وذهب إلى ذات المعنى أبو هلال العسكري (ت:359هـ) بقوله: ((كانت العرب في أكثر شعرها تبتدئ بذكر الديار والبكاء عليها والوجد بفراق ساكنيها)) ([77]) فذكر هذه الأماكن لم يأت اعتباطا بل كان نابعا من صميم الشعراء فهي أماكن الأهل والأحبة ((هذه العلاقة بين الإنسان والمكان تتم وفق قانون الفعل ورد الفعل، إذ بقدر ما يؤثر المكان ويحفز في الإنسان خصائصه وملامحه فإنه ينحفر – المكان – بالإنسان وفعالياته المستمرة)) ([78]).
وإذا ما نظرنا إلى المطالع الشعرية فإننا سوف نجد ذكر الديار والأطلال الدارسة صفة غالبة على هذه المطالع والسبب في ذلك هو لجوء الشاعر إلى هذه الأمكنة ((ليتخذ منها وسيلة تذكره بحبيبته، أو وسيلة تساعده على التعبير عن ألم الفراق والصدود وخاصة عندما يتعرض لوصف الديار القفراء)) ([79]).
إذا ما عاد الأمر خافيا فإن هذه الأماكن تجمع ((بين عنصرين أحدهما يذكر بالفناء ... والآخر يذكر بالحب)) ([80]).
وبما أن ظاهرة المكان معروفة في الشعر العربي، فإن للشعر الأندلسي نصيبا من هذه الظاهرة، وربما كان لهم النصيب الأكبر من هذه الظاهرة والسبب في ذلك يعود إلى البيئة الأندلسية وما ضمت في حناياها من جمال طبيعي، فلهم في الغزل شعر جميل ومؤثر ((فقد كان ينساب على شفاه الشعراء الأندلسيين انسيابا لأسباب كثيرة منها اختلاط الرجال بالنساء وإطلاق الحرية الفردية مضافا إلى ذلك جمال الطبيعة الأندلسية)) ([81]).
وإذا كان الدكتور باقر سماكة وضع جمال الطبيعة الأندلسية في موضع الإضافة فإنني أضعها في موضع الصدارة في إثارة الشعراء وتحريك مشاعرهم في قول الغزل ((فقد يتغزل الشعراء الأندلسيون متشوقين إلى أحبتهم فتعن لهم أيام اللقاء بالأندلس وينقطعون عن الغزل إلى وصف مواضع اللقاء بأحبائهم الهاجرين وقد يصف عاشقهم حبيبة مستعيرا له صورة جنة مختلفة الأزهار فتكون الطبيعة حينذاك متكأ في غرضهم الشعري)) ([82]).
وكان للشاعر الأندلسي تجربته التي عانى فيها من بعد ديار المحبوبة وبكاءه نأي الأحبة ووقوفه على أطلالهم فهذا الغزال (ت:250هـ) يصب لنا تجربته المعاشة في تجربته الأدبية فيخرج لنا أبياتا نلمس فيها روح الفراق ولوعة الاشتياق وهي تعرج على المكان مضمونا ودلالة يقول:
وتنورت بالنخيلات نارا
من لظاها فما أطيق اصطبارا
ر وميض السعير منها استعارا ([83])
ريع قلبي لما ذكرت الديارا
وازدهتني ذات السنا ببروق
والقريح الفؤاد يزداد للنا
فقرن ريع القلب بذكر الديار واستخدم معاني الشوق والوجد وعدم الصبر على ذلك وجميع هذه المعاني تنبئ بمرارة الحزن ولوعة الفراق وشدة المعاناة.