أنت هنا

قراءة كتاب المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)

المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)

كتاب " المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ) " ، تأليف محمد عبيد السبهاني ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: دار غيداء
الصفحة رقم: 6

أما في العصر الأموي فلم يكن أثر المكان أقل شأنا في الشعر من العصور التي قبله فهذا مالك بن الريب أضناه البعد عن الأهل والأحبة وعصفت به رياح الغربة فذهب قائلا:

بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
مزار ولكن الغضا ليس دانيا ([42])

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا

فهو متشوق لديار أهله وأحبته ويتمنى لو أنه يستطيع أن يأوي إليها، ويبيت فيها ولو ليلة واحدة، يسوق الإبل شأنه شأن فتيان قبيلته ويلجأ إلى تكرار اسم المكان (الغضا) محاولا إظهار لوعة الشوق والحنين إليه.

والعربي تميز بحبه لأماكن البادية (الصحراء وما فيها) ويشعر بها بحرية ((ويجد نفسه في الصحراء، كما يجدها في ربوع الماء والزرع، ووجوده هنا لا يتحقق بسبيل العيش والتجارة، بل في تأكيد الذات إزاء المحيط الواسع المتناهي)) ([43]).

وسر العلاقة ((بين الإنسان والمكان – من هذا المنحى – تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية)) ([44]) وتصبح العلاقة بينهما – الإنسان والمكان – قائمة على الألفة، وهذا ما وجدناه لدى ميسون بنت بحدل الكلبية ([45]) زوجة معاوية حين ضاقت بها الدنيا عندما نقلها زوجها من البادية إلى الشام، واتخذت من القصور الفخمة منزلا لها بعد الصحراء، ولكن ما أن لبثت حتى أطلقت زفرات الحنين والأنين إلى المكان الذي نشأت فيه فقالت:

أحب إلي من قصر منيف
أحب إلي من نقر الدفوف
إلى نفسي من العيش الظريف ([46])

لبيت تخفق الأرواح فيه
ولبس عباءة وتقر عيني
خشونة عيشتي في البدو أشهى

فهي تألف البادية وتنفر من القصور ونعيمها وتحن إلى صعوبة عيشها في ذلك المكان وتفضله على عيش القصور والترف الذي فيها.

وتنعكس آثار المكان سلبا أو إيجابا على الشاعر، فألفة المكان وعدوانيته تتحقق بما يتركه من أثر في النفس([47]). والسجن هو أكثر الأماكن عدائية، لأسباب معروفة، فهذا عبد الله بن عمر العرجي أحس بالضياع والحرمان من الحرية بعد أن زج به في السجن على يد محمد بن هشام ([48])، وأثار المكان رهبته واضحة على نفسية الشاعر فذهب قائلا:

ليوم كريهة وسداد ثغر
وقد شرعت أسنتها بنحري
فيا لله مظلمتي وصبري
ولم تك نسبتي في آل عمرو ([49])

أضاعوني وأي فتى أضاعوا
وصبر عند معترك المنايا
أجرر في الجوامع كل يوم
كأني لم أكن فيهم وسيطا

إنه الإحساس بالضياع وتقلب الزمان به، وضيق المكان ووحشته جعله يفخر بنفسه حتى يتخلص مما هو فيه من حرمان وشدة وضنك وتقييد للحرية.

وإذا ما عدنا لشعر مالك بن الريب فسوف نجده يحدثنا عن تجربة السجن أيضا وما قاساه فيه، فهو القائل:

بمكة في سجن يعنيه راقبه ([50])

أتلحق بالريب الرفاق ومالك

فقوله: (في سجن يعنيه راقبه) يعبر بصدق عن معاناة الشاعر من حارس السجن الذي سقاه سوء العذاب.

ويبقى السجن مكانا للرهبة والخوف لدى الشاعر الأموي فهذا الفرزدق يقول:

يخشى علي شديد الهول مرهوب ([51])

في محبس يتردى فيه ذو ريب

فالرهبة والخوف والظلمة كلها من مكونات هذا المكان الذي ألم بنفسية الشاعر وعصف به في مهاوي الخوف والحزن.

أما ألفة المكان فهي متأتية من ألفة ساكنيه، وهذا ما نجده واضح المعالم لدى شاعر الغزل العذري جميل بثينة حيث قال:

إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
لها بالتلاع القاويات وئيد
بوادي القرى إني إذن لسعيد
وقد تطلب الحاجات وهي بعيد ([52])

علقت الهوى منها وليدا فلم يزل
يذكر فيها كل ريح مريضة
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وقد تلتقي الأهواء من بعد ياسة

فالرياح الهادئة تذكره ببثينة فيزداد شوقا إليها ويتمنى أن تعود أيام الوصل واللقاء معها، كما يتمنى العيش ولو ليلة واحدة في وادي القرى مربع الأهل والأحبة، ويتودد إلى ذلك المكان الذي شهد أيام طفولتها وأيام الوصل بينهما.

وقد يصد الشاعر عن المكان الذي ألفه (مكان الحبيبة) ويلجأ إلى الأماكن المجاورة لها، ليجد في هذا الصدود ما يثير في نفسه آلاما وجدانية مبرحة ([53])، ومثل هذا نجده في قول كثير عزة:

وأقعد والممشى إليك قريب
وأكثر هجر البيت وهو جنيب ([54])

وإني ليثنيني الحياء فأنثني
وآتي بيوتا حولكم لا أحبها

فهو مرغم على أن يأتي المكان الذي لا يحبه، بسبب قاطني المكان – الحبيبة – التي تجعل منه إنسانا ملتصقا بذلك المكان، لشدة تأثير الحب في نفسيته والذي جعل منه إنسانا آخر ينظر إلى بيتها نظرة الحب البعيد المنال.

وفي العصر العباسي ([*]) نجد أن الشاعر قد تعامل مع المكان بالموضوعية نفسها كما تم توظيف هذا العنصر في العمل الأدبي بشكل واضح لدى شعراء هذا العصر فهذا أبو تمام يقول:

رماة جوى لشجو ما تصيب
ولا صدد دمشق ولا قريب
جبال الثلج رحبى والرحيب ([55])

أروم حمى العراق فتدريني
وتثفقني دمشق وساكنوها
سقى الله البقاع فحيث راقت

فنراه يسترجع أكثر من بؤرة مكانية، وكل واحدة من هذه الأماكن يمثل نقطة ضغط على ذات الشاعر، فهو يحن إليها ويتشوق اشتياق المغترب عن بلده.

وهذا الشوق والحنين لمثل هذه الأمكنة نجده أيضا في الأبيات الشائعة الذكر حين قال:

ما الحب إلا للحبيب الأول
وحنينه أبدا لأول منزل ([56])

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
كم منزل في الأرض يألفه الفتى

فالحب والمنزل أمران متساويان لدى الشاعر، وكما وجد دفء العاطفة والأمان في الحبيب الأول وجدها أيضا في دار إقامته الأولى، ومن هنا تنبع خصوصية كل مكان كونه ترجمة لأحاسيس الشعراء.

الصفحات