كتاب " المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ) " ، تأليف محمد عبيد السبهاني ، والذي صدر عن
أنت هنا
قراءة كتاب المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المكان في الشعر الأندلسي (من الفتح حتى سقوط الخلافة 92هـ -422هـ)
والمتنبي ([*]) نجده أيضا يحن ويبكي على المكان الذي ألفه وتذكر فيه أيامه السالفة فهو القائل:
جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد
سقتها ضريب الشول فيها الولائد ([57])
مررت على دار الحبيب فحمحمت
وما تنكر الدهماء من رسم منزل
فهو يجعل من الإبل والجياد تشاركه الحنين لمثل تلك الأمكنة، ليظهر لنا توجعه والألم الذي يحس به جراء المرور بمثل هذه الأمكنة، وهو أسلوب شعري كثيرا ما اعتاد عليه الشعراء.
ونجد أيضا أن المتنبي قد ((وقف على الرسوم والأطلال كما وقف غيره وذرف الدموع في الربوع الخالية)) ([58]) وأخذ يقول:
لأهله وشفى أنى ولا كربا
من العقول وما رد الذي ذهبا
سوائلا من جفون ظنها سحبا ([59])
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا
عجنا، فاذهب ما أبقى الفراق لنا
سفينه عبرات خلنها مطرا
فهذا المكان قد زاد في حزنه فراح يسكب عليه العبرات التي تشبه المطر في انحدارها وتنهمر من جفونه كأنها سحب على تلك الدمن والآثار.
أما دموع أبي فراس الحمداني ([*]) على الأطلال فكانت مدرارة وشكلت لدى الشاعر حنينا وشوقا لا حدود له، ارتسم هذا الشوق في سجنه ووجد في تذكره لهذه الأماكن ما يطفئ نار الأسى التي التهبت في داخله فهو القائل:
ونار ضلوعه إلا التهابا
أغب من الدموع لها سحابا
ولكني سألت فما أجابا ([60])
أبت عبراته إلا انسكابا
ومن حق الطلول علي ألا
وما قصرت في تسآل ربع
فنظرة إلى هذا النص تكشف لنا أن الشاعر قد اتخذ من الأطلال منفذا عاطفيا، ليبث معاناته وشكواه النفسية التي ألمت به في ذلك المكان المعادي (السجن).
أما الشريف الرضي فهو يألف دار الحبيبة ويحن إليها، ليجد فيها عبق الماضي السعيد حيث يقول:
إلا وربعك شائق ومشوق
والزجر ورد والسياط عليق
كل البلاد مهجر وعقيق
بالمحل من أسر الغمام طليق ([61])
يا دار ما طربت إليك النوق
جاءتك تمرح في الأزمة والبرى
وتحن ما وجد المسير كأنما
دار تملكها الفراق فرقها
فهو ينادي تلك الدار ويصف لنا حنين النوق إليها، وحقيقة الأمر هو وصفا لحنين الشاعر ذاته، وجعل من حنين النوق تعظيما ومبالغة، لينقل إلينا حنينه.
وثمة شيء آخر في العصر العباسي، هو أنه عصر حافل بالأحداث السياسية والاجتماعية فكان لا بد أن تضع هذه الأحداث بصماتها على الشاعر العباسي كون الشاعر ابن بيئته يتأثر ويؤثر بها، وهذا ما وجدناه لدى الشريف الرضي، إذ تحول المكان بالنسبة للشاعر إلى باعث معاناة قاسية فيرفض العيش والإقامة في دار الهوان ([62])، وأصبحت بغداد بالنسبة له دار ظلم وذل بعد أن تسلط عليها الأجانب فيعزف عنها قائلا:
كأنني فيه ناظر الرمد
تشرج أجفانها على ضمد ([63])
ليلي ببغداد لا أقربه
ينفر قومي كأن مقلته
وإلى هذه المعاناة القاسية والرفض للمكان ذهب الشريف المرتضى إلى التذمر من دار الإقامة بعد الفتن والحروب التي أصابت بلاده ولهذا يقول:
وثراها حرب لماء الغمام
تك فيها الطوال كالأعوام
لسقامي فليس غير سقام ([64])
ليس دار الزوراء دار مقام
ليس فيها عيش قصير وساعا
وإذا ما طلبت فيها دواء
هذا الرفض والتذمر من المكان، وتحول نظرة الشاعر نحوه من أليفة إلى معادية، مردها إلى الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أحيطت ببغداد في تلك الفترة وما أصابها من خراب ودمار انعكست آثارها سلبا على الشاعر فعزف عن دار إقامته وأصبح لا يطيق عيشها ولا يجد فيها غير السقام.
وصفوة القول إن المكان قد شكل حضورا دائما في الشعر العربي وعلى مر العصور الأدبية التي تناولناها، بل وكان باعثا من بواعث قول الشعر، ويشكل خصوصية واضحة في الشعر، هذه الخصوصية للمكان جاءت نتيجة لارتباطه بكثير من الدلالات الاجتماعية والنفسية.