أنت هنا
قراءة كتاب البحرية الإسلامية في الشعر الأندلسي من الفتح حتى سقوط غرناطة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
البحرية الإسلامية في الشعر الأندلسي من الفتح حتى سقوط غرناطة
وأن عَبَرَ طارق بن زياد المضيق في أربع سفن فاتحاً الأندلس، وأحرق
-كما يُروى- سفنه بعد عبوره - والله اعلم -، فإن سفن معز الدولة سنة (484هـ)، لم تعد للفتح والانتصار وإنما أُعدَّت للهزيمة والفرار، فقد (بادر الأمير معز الدولة باتخاذ أهبة الفرار، ثم ركب في أهله وأمواله في ثلاث سفن أعدها لذلك وأحرق السفن الباقية خشية المطاردة واستطاع مغادرة المرية قبل أن يطوقها المرابطون في رمضان (484هـ- 1091م) )(63) .
ونتجاوز كثيراً من انتصارات الأسطول المرابطي لنصل إلى نتائج معركة الزلاقة التي أدت إلى أن ينعم المسلمون بعدها بحياة جديدة في إسبانيا امتدت إلى أربعة قرون، ومهدت السبيل لسيطرة المرابطين على الأندلس وجعلت منها ولاية مغربية زهاء مئة وخمسين عاماً (64) .
وننتقل إلى انتصار الموحدين على المرابطين سنة (541هـ)، إذ سار الموحدون لاحتلال أشبيلية وحاصرتها من البحر سفن الأسطول الأندلسي، وسرعان ما اقتحم الموحدون المدينة وفرَّ المرابطون، واستولى الموحدون على غرناطة بدون حرب وقد حاصروا المرية براً وبحراً بمشاركة أسطول سبته الموحدي وأرغمت المرية على التسليم سنة (552هـ) وعادت إلى سلطان المسلمين بعد أن أحتلها الفرنج عشرة أعوام(65).
وتشير مسيرة البحرية الأندلسية إلى عبور الخليفة عبد المؤمن إلى الأندلس سنة (555هـ) بعدِّها جزءاً لا يتجزأ من الأمبراطورية التي نذر الموحدون أنفسهم عليها، وقد سجل عبد المؤمن انتصاراته وفتح الأندلس وتسلم غرناطة بدون قتال، يقول (66) : [ من الطويل ]
ولَمَّا قَضينا بالمشارق أمرنا
وأشرقت الشمسُ المنيرةُ فوقنا
أشرنا بأعناق المطي إليكم
وتمَّ مراد الله في كل مطلب
وأصبحَ وجهُ الأرض غير مُحَجَّب
فطار بها شأو السرور بمغرب (67)
ثم أمر الخليفة عبد المؤمن بتحصين قاعدة جبل طارق وعبر إليها بعد اكتمال بنائها وأمر باستدعاء الشعراء وكان يوماً عظيماً من أيام الشعر والشعراء، ومن القصائد التي أعجب بها عبد المؤمن قصيدة الشاعر ابن جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد، منها (68) : [ من الطويل ]
تَكَلَّم فقد أصغى إلى قولك الدهرُ
ورُمْ كلَّ ما شئتهُ فهو كائن
وحَسْبكَ هذا البحر فألاً فإنه
وما لسواك اليوم نهيّ ولا أمرُ
وحاول فلا برٌّ يفوت ولا بحرُ
يقبل تراباً داسهُ جيشك الغمرُ
وتصل مسيرتنا التاريخية إلى انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى عند ذاك تحول الدفاع عن أمة الأندلس إلى معارك داخلية وصراعات شخصية، بل إلى مصانعة وتسليم إلى الفرنج، مما دعا الأمير محمد بن يوسف بن هود إلى الانضمام تحت راية الخلافة العباسية، وكان يعمل على تحرير الأندلس من الموحدين ومن عدوان الفرنج، وفعلاً حصل ابن هود على مرسوم توليته على الأندلس من الخليفة المستنصر بالله العباسي سنة (630هـ) بعد التاريخ هذا توالت حوادث سقوط القواعد الكبرى،ففي سنة (633هـ) سقطت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة وكبرى قواعد الأندلس بدخول الجند القشتاليين بعد أن حكمها المسلمون منذ افتتاحها سنة (92هـ)(69)، ثم سقوط بلنسية الذي ما كان ينفع فيه استصراخ ابن الابار (ت 658هـ) 70*، للسلطان الأندلسي الأمير أبي زكريا الحفصي لنجدتها، في قصيدته المشهورة.
ومنها قوله : [ من البسيط ]
أدْرِك بخيلك خيلَ الله أندلسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست
إن السبيل إلى منجاتها درسا(71)
فلم يزل منك عـز النصر ملتمسا
وفي سنة (646هـ) تسقط حاضرة الأندلس العظمى أشبيلية بعد أن حكمها المسلمون منذ افتتاحها على يد موسى بن نصير، وسقوط اشبيلية بعد قرطبة يُعدُّ تصفية نهائية لسلطان الأندلس، ونذيراً لسقوط سائر القواعد، ولاسيما قواعد الغرب التي أصبحت معزولة عن بقية القواعد الأندلسية (72) .
بعد هذه الضربات الشديدة لسلطان الموحدين في الأندلس، تظهر مملكة إسلامية جديدة في جنوب الأندلس هي مملكة غرناطة ويرجع قيامها في جنوب الأندلس إلى عوامل جغرافية وتاريخية (واستحال الوطن الأندلسي الذي كان قبل قرن يشغل نصف الجزيرة الأسبانية إلى رقعة متواضعة هي مملكة غرناطة)(73)، وفي رثاء الأندلس نظم الشاعر أبو الطيب صالح بن شريف الرندي (684هـ) مرثيته الشهيرة (74): [ من البسيط ]
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان
فلا يُغَرُ بطيب العيش إنسان
تولى ولاية مملكة غرناطة، محمد بن يوسف بن الأحمر سنة (635هـ)، بعد حوادث عديدة، وكان من غرائب القدر أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة استطاعت أن تعيد لمحة من مجد الأندلس الذاهب، وأن تسهر على تراث الإسلام في الأندلس زهاء مئتي وخمسين عاماً أخرى (75) .
وبخصوص البحرية الإسلامية الأندلسية في مملكة غرناطة فقد اجتاح أراضي قشتالة السلطان أبو يوسف المنصور بعبوره إلى الأندلس للمرة الرابعة وزحفه إلى أراضي النصارى عام (684هـ) وخضوع ملك قشتالة إلى شروط المنصور، وفي سنة (713هـ) تولى السلطان أبو الوليد إسماعيل عرش غرناطة واستولى على مدينة بيّاسة الحصينة سنة (724هـ)، واسترد ولده أبو عبد الله محمد بن الأحمر سنة (733هـ) مضيق جبل طارق بعد بقائه في حكم النصارى (24) عاماً (76) .
ظهرت مملكة غرناطة بمظهرٍ من القوة لم تعرفه من قبل وذلك في أثناء حكم الغني بالله سنة (768هـ) حيث توالى زحف المسلمين على معاقل العدو وتم تحرير بعض المدن آخرها مدينة جيان، وسار الغني بالله سنة (769هـ) إلى الجزيرة الخضراء وحاصرها وأرغم النصارى على إخلائها (77) .
من هذا العصر المليء بالسؤدد والرخاء، انتقل متجاوزاً ملوكاً تعاقبوا على حكم غرناطة بين قوي وضعيف إلى الفصل الأخير من الصراع بين النصرانية والإسلام في إسبانيا، ولم يكُ ثمةَ شك في نتيجة هذا الصراع الذي أعد له الأفرنج العدة الحاسمة، بلدٌ إسلامي هو البقعة الباقية من دولة عظيمة يحيط به العدو كالموج من كل صوب، كان هذا موقف غرناطة آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس وتم حصار غرناطة لمدة سبعة أشهر في صيف (896هـ-1491م)(78).
دبَّ اليأس في قلوب الناس جميعاً ونضبت الأقوات والمؤن، واشتد البلاء بالناس وغاض كل أمل في تلقي الأمداد من عدوة المغرب، وأصبح الشعب لا يقوى على تحمل ويلات الدفاع ولم يبق سوى التسليم أو الموت واتفق الجميع على وجوب التسليم، وانتهى الأمر بملك غرناطة أبي عبد الله الزغيبي ووزارئه والقادة إلى اختيار التسليم بعد مفاوضة ملك قشتالة وينقل محمد عبد الله عنان: (ولما رأى الزغيبي أبو عبد الله أن مدينة غرناطة لا تستطيع دفاعاً... ونزولاً على رغبة السواد الأعظم من الشعب ... أرسل يطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين لكي يستطيع خلالهما أن يتفاهم على شروط الصلح التي يمكن التسليم بمقتضاها))(79) .
تم تسليم غرناطة وأطلقت المدافع تدوي في الفضاء ثم انطلقت فرقة الرهبان ترتل صلاة (الحمد لله) (The Deum Laudamus) على أنغام الموسيقى وهكذا كان كل ما هناك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التي شهرها الأفرنج على الأمة الأندلسية وعلى الإسلام في إسبانيا في 2 ربيع الأول عام (897هـ 2 يناير عام 1492م) .
أُختم هذه المأساة المروعة بموقف أبي عبد الله الزغيبي بعد أن تم تسليم مفاتيح الحمراء إلى الملك فرناندو، فقد أشرف على منظر غرناطة فوقف يسرح بصره لآخر مرة في هاتيك الربوع فانهمز في الحال دمعه وأجهش بالبكاء، فصاحت به أمُّه عائشة (أجل فلتبكِ كالنساء ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال)وتذكر الرواية التاريخية الإسبانية كما يرويها محمد عبد الله عنان أن تلك الأكمة التي كانت مسرحاً سُمِيَّت باسم شاعري مؤثر (زفرة العربي الأخير)
El Ultimo suspiro delmoro واستطيع أن أعدَّ هذه المأساة نتيجة طبيعية لسوء تصرف حكام الأندلس منذ عهد الطوائف وحتي دولة بني الأحمر في غرناطة، وتكالب الحكام على السلطة والزعامة أو الانغماس في اللهو والمجون(80)، فضلاً عن كثرة الصراعات التي امتدت طويلاً بين المسلمين والفرنجة، وكان لهذه المأساة المروعة الأثر البالغ في قلوب الشعراء والأدباء (وانسكبت في عواطفهم الآلام والمواجع، ونظروا إلى تقلب الأحوال بعين التشاؤم)(81) .
إلا أن هذه المحنة الغامرة لم تثر وحي الشعر ذلك أن دولة الشعر الأندلسي كانت قد انهارت منذ زمن بعيد، وتحطمت الأقلام وعقدت المحنة كل لسان، ومع ذلك فقد صدرت في رثاء أمة الأندلس الإسلامية نفثات قوية تهز أوتار القلوب .
وإذا كُنَّا قد أسهبنا في هذا العرض التاريخي فشفيعنا في ذلك رسم صورة واضحة عن الأسطول الإسلامي (البحرية الأندلسية) تعين على تتبع مراحل قوة الأسطول في أُمة الأندلس، ومن هذا التاريخ ننفذ إلى موضوع دراستنا في الأندلس من أوسع أبوابه، (البحرية الإسلامية في الشعر الأندلسي) في معارك الجهاد ليكون مفتاحاً آخر لمعرفة هذا التاريخ .