كتاب " دراسات في أدب العرب قبل الإسلام " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب دراسات في أدب العرب قبل الإسلام
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ضروب الخطابة :
الخطابة ظاهرة معروفة لدى الجميع فليس هناك مجتمع لم يعرفها ، ومنها أمة العرب قبل الإسلام ، وقد كان شأنها عظيماً عندهم ، إذ كانوا يستخدمونها في منافراتهم ومفاخراتهم ، وفي النصح والإرشاد ، وفي الحث على القتال ، وفي الدعوة إلى السلم وحقن الدماء ، وفي مناسباتهم الاجتماعية كالزواج والاصهار إلى إلى الأشراف ، وكانوا يخطبون في الأسواق ، والمحافل العِظام ، والوفادة على الملوك ، والأمراء ، متحدثين عن مفاخر قبائلهم ومحامدها ([8]).
وهكذا جاءت خطب العرب قبل الإسلام صورة لما اقتضته بيئتهم وحياتهم العامة ، إذ أن تلك الخطب تتصل بالحياة القبلية التي كانت سائدة وتلائم حياة العرب الاجتماعية . وسوف نتناول تلك الخطب بشيء من الإيجاز مشيرين إلى ما حفظته المظان الأدبية مؤيداً لضروب الخطابة التي يوثقها ذلك النص .
1- المنافرات والمفاخرات : هما من الفنون الأدبية القديمة ، وتدور معانيها على المباهاة بقوة العصبية وكرم النِّجار ،وشرف الخصال ، وتختلف المفاخرة عن المنافرة باشتراك المحكمين للثانية ، إذ يقوم بها أشراف العرب وساداتهم وحكمائهم (وكانوا يحكمون وينفرون للاسجاع ) ([9]). واشهر منافرة هي منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين وحكم بينهما هرم بن قطبة الفزاري ، وفيها يقول المتنافر عامر : ( والله أني لأكرم منك حسباً ، واثبت منك نسباً ، وأطول منك قصباً ). فيجيبه علقمة : ( أنا أفخر منك للقاح، وخير منك في الصباح ، وأطعم منك في السنة والشياح). وكانت نتيجة التحكيم أن سوى بينهما إذ جعلهما كركبتي بعير .
2- النصح والإرشاد : ويتولى هذا النوع من الخطب من له منزلة في قومه ويكون له دور المرشد الناصح كخطبة قس بن ساعدة : ( أيها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت ...) .
3- الدعوى إلى قتال الأعداء ، والأخذ بالثأر ، وأشهر هذه الخطب خطبة هاني ابن قبيصة الشيباني التي حرّض فيها قومه على قتال الفرس في يوم ذي قار: ( يا معشر بكر ، هالك معذور خير من ناج فرور ، إن الحذر لا ينجي من القدر ، وإن الصبر من أسباب الظفر ، المنية ولا الدنية ، استقبال الموت خير من استدباره ، الطعن في ثغر النحور ، أكرم منه في الإعجاز والظهور، يا آل بكر ، قاتلوا فما للمنايا من بد ) ([10]).
4- ومن خطب المناسبات الاجتماعية الأملاك ، إذ كان من عادة العرب أن يتقدم لخطبة المرأة نيابة عن الراغب في زواجها شريف من رهطة فيخطب معدداً مآثر الرجل ، فيجيبه من رهط المرأة رجل بمثل ما قاله من ذلك ما جاء من خطب أبي طالب في زواج النبي (r) في زواجه من السيدة خديجة : (الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلداً حراماً ، وجعل لنا بيتاً محجوباً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم أن محمداً بن عبد الله ابن أخي من لا يوازن به فتى من قريش الأرجح عليه بِرِّاً وفضلاً ، وكرماً وعقلاً ، ومجداً ونبلاً ، وإن كان من المال قل ، فإنما المال ظل زائل ، وعاريه مسترجعة وله في خديجة بنت خويلد رغبة ، ولها فيه مثل ذلك ، وما أحببتم من الصداق فَعَليّ ) ([11]).
5- خطب الدعوة إلى السلم وحقن الدماء : وهي تدعو إلى الصلح وحقن الدماء ومن أشهر هذه الخطب خطبة قيس بن خارجة في شأن حرب داحس والغبراء ، وقد سمى العرب هذه الخطبة ( العذراء ) ولم تصل إلينا هذه الخطبة ، إنما أشار إليها الجاحظ([12]).
6- خطب المحافل والوفود : وهي التي قيلت في المواسم والأسواق وفي مجالس الملوك عند وفادة سادة القبائل عليها مفاخرين أو مهنئين أو غير ذلك . وقد رفض الدكتور طه حسين في مثل هذه الخطب([13]) ولعله نسب إليها الوضع للذي لاحظه ما فيها من طول ، ومن تلك الخطب ، الخطبة تلك التي عَزَّى بها أكثم بن صيفي ملك الحيرة ((أيها الملك : إن أهل هذه الدار سفر لا يحلون عقد الرحال إلاّ في غيرها ، وقد أتاك ما ليس براجع إليك ، وأقام معك من سيظعن عنك ))([14]). ثم يختم خطبته حكمة تدعو إلى فعل الخير . ويلحق بالخطابة الوصية ، وهي نصيحة يلقيها ذو شأن في قومه أو قبيلته في وقت معين يحث فيها على فعل الخير وتجنب الشر ، ولاسيما وصية الأب لأبنائه عند احتضاره، وشيخ القبيلة حين تلم بها الصعاب من ذلك وصية النعمان لابنه المنذر (يا بني أن لي فيك راياً دون غيرك من ولدي ، فأني آمرك بما أَمرني به والدي ، وأنهاك عما نهاني عنه ... ) ([15])
ويتصل بالخطابة ضرب آخر من النثر ، وهو سجع الكهان الذي انتهى بظهور الإسلام ، من ذلك قول الكاهن سطيح بن مازن في تعبير رؤيا ربيعة ابن نصر اللخمي أحد ملوك اليمن : ( أحلف بما بين الحرتين من حَنَشٍ ليهبطن أرضكم الحبش ، وليملكن ما بين أبين إلى جرش ) ([16]).
وقبل أن نعرض لما جاء في الخطب - آنفة الذكر ـ من قيمة أدبية وتاريخية يقتضي الحال إيراد جزء من خطبة النعمان بن المنذر في بلاط كسرى ، ودفاعه عن قومه العرب ، إذ يقول : ( افتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثنى فارس ولا غيرها ، فقال كسرى ـ وأخذته عزة الملك ـ يا نعمان ، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم ، ونظرت حال من يقدم عليّ فوجدتُ الروم لها حظ في اجتماع الفتها وعظم سلطتها .. ورأيتُ الهند ... وكذلك الصين ... والترك([17])... فيرد النعمان على كسرى : وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلاّ فضلتها ، فقال كسرى بماذا ؟ قال النعمان : بعزها ، ومنعتها وحسن وجودها ، وبأسها ، وسخائها ، وحكمة ألسنتها ، وشدة عقولها وأنفتها ، ووفائها([18]).
على الرغم مما يوجه إلى النثر العربي قبل الإسلام من النحل ، بل الرفض له ولاسيما الخطابة ، بل ذلك الذي تطمئن إليه أو ما أطلق عليه الخطب المفتعلة ، فأننا نستطيع تكوين بعض الأفكار أو الخطوط البارزة لهذه الخطب ، لأن الذين افتعلوها على لسان العرب في خطب ما قبل الإسلام ، فقد راعوا محاكاة النماذج الأصلية([19]) ولأن!َّ ذلك كذلك ، فإنّه يمكننا تأشير بعض سمات الخطب في ذلك الوقت :
- قصر الخطب السابقة للإسلام قياساً لما بعده . ولعل ذلك جاء موفقاً لطبيعة الحياة العربية التي لم تكن تستدعي ما يطول من كلام ، ولم يلتزم الخطباء بسنن واضحة للخطابة([20]) وإلى جانب هذا ، فقد كانوا يستشهدون بالشعر في خطبهم يقوون المعاني المنثورة في تلك الخطب([21]).
- ولما كان الخطيب يريد أن ينقل لمستمعيه خطبته بعبارة موجزة ، فقد كان يلجأ إلى الجمل القصار المسجوعة ليكون ذلك مدخلاً لقلوب سامعيه بما يملكه السجع من الموسيقى ، وكثيراً ما تتخذ فقرات الخطابة طابع المثل ، الأمر الذي يقدر لها الشيوع ، فتتناقلها الألسن([22])، من ذلك خطبتا أكثم بن صيفي ، وهاني بن قبيصة الشيباني (( هالك مغدور ، خير من ناج فرور )) هذا فيما يتصل بالسمات الفنية للخطابة ، أما ما يتصل بقيمتها التاريخية والأدبية السابقة للإسلام ، فعلى الرغم ما أَصابها من تزييف وتحريف ، فهي أمثلة حيّة على عقلية القوم وأساليب معيشتهم ، وطرق تصرفهم بالنظر إلى مجتمعهم وعلاقاتهم بغيرهم ([23]).
لقد اعتمد خطباء العرب قبل الإسلام في خطبهم على أسلوبين مهمين أحدهما يتخذ العقل دليلاً ويركب مركب الحجة المقنعة ، فيعمد إلى التفضيل ، والتعليل كما في خطبة النعمان ، وثانيهما يتخذ العاطفة وسيلة للإقناع فيعتمد العبارات القصيرة ، والسجع ، والموسيقى ، والتشبيه ، والاستعارة ، والصورة الشديد الوقع ويحاول التأثير في عاطفة الآخرين ([24]).