أنت هنا

قراءة كتاب دراسات في أدب العرب قبل الإسلام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
دراسات في أدب العرب قبل الإسلام

دراسات في أدب العرب قبل الإسلام

كتاب " دراسات في أدب العرب قبل الإسلام " ، تأليف د.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

ظواهر الخطابة الفنية :

الخطابة من فنون النثر العربي قبل الإسلام ، وقد اتسمت بسمات فنية ، نتعرف عليها بعد أن نذكر نماذج من هذه الخطب نستنتج من خلالها السمات الفنية فمن تلك الخطب خطبة قيس بن ساعدة الإيادي خطيب العرب عامة والمضروب به المثل في الحكمة والبلاغة وكان يدين بالتوحيد ، ويؤمن بالبعث ويدعو العرب إليه بعد العكوف على الأوثان ، ويرشدهم إلى عبادة الخالق ([43]) تبدأ خطبته :

(( أما بعد : أيها الناس : اسمعوا ، وعوا ، منى عاش مات ، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت ، ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة ، إن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا ، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون ، أرضوا بالمقام فأقاموا؟ أم تركوا هناك فناموا ؟ يقسم قس بالله قسماً لا إثم فيه أن لله ديناً هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه إنكم لتأتون من الأمر منكرا ([44]) وأنشأ بعد ذلك يقول :

في الذاهبينَ الأولين من

لَمَا رأَيتُ موارداً

ورأيتُ قومي نحوها

ولا يرجع الماضي إلينا

أيقنتُ أني لامحاً

القرونِ لنا بصائر

للناسِ ليسَ لها مصادر

تمضي الأكابر والأصاغر

ولا من الباقين غابر

لهُ حيث صارَ القوم صائر

وحين يمعن الدارس نظره في هذه الخطبة يجد أن الخطيب قد اتخذ بعض الصور الفنية ، من ذلك ابتداء الخطبة بعبارة أما بعد ، ثم عقبها بعبارة النداء ، أيها الناس ، وامتازت جمل الخطيب بقصرها ، وتقوم معانيها على المنطق والمحاججة ، واستعمال الجمل النثرية المسجوعة التي تدور معانيها حول عبادة الواحد ونبذ الأصنام والأوثان ، ولم ينسَ الخطيب تقوية المعاني التوحيدية التي تزخر بها خطبته بأبيات شعرية تتضمن بعضاً من المعاني التي تناولتها الجمل المنثورة .

ومن الخطب الجيدة خطبة حكيم العرب أكثم بن صيفي ألقاها في مجلس كسرى الفرس حين رأس الوفد الذي بعث به النعمان بن المنذر ليدحض ما سمعه من كسرى من انتقاصه من العرب ، الأمر الذي جعله يقول لأكثم بعدما سمع خطبته، ويحك يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك([45]) .

وأما الخطبة فهي : إن أفضل الأشياء أَعاليها ، وأعلى الرجال ملوكهم ، وأفضل الملوك أعمها نفعاً ، وخير الأزمنة أخصبها ، وأفضل الخطباء أصدقها . الصدق منجاة ، والكذب مهواة ، والشر لجاجة والحزم مركب صعب والعجز مركب وطيء آفة الرأي الهوى وسوء الظن عصمة ، إصلاح فساد الرغبة خير من إصلاح الراعي ومن فَسَدَتْ بطانته كان كالغاص بالماء ، وشر البلاد بلاد لا أمير بها ، وشر الملوك من خافه البريء ، المرء يعجز لا المحالة . أفضل الأولاد البررة خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة ، أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته ، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل . حسبك من شر سماعه الصمت حكم ([46]) وقليل فاعله . البلاغة الإيجاز ، من شدد نفر ومن تراخى تالف([47]) .

إن زعامة أكثم بن صيفي أوجبت عليه أن يمتلك الجرأة والشجاعة وهو يرد قول ملك فارسي انتقص من العرب ، ولذا بانت جرأة خطيبهم ولم يبالِ وهو يخاطب كسرى في عقر داره إلاّ أن يقول ما يريد قوله ، موضحاً علاقة المجتمع بالسلطة التي تملك زمام الأمور ، فجاءت كلمات الخطيب متسلسلة منطقياً ابتداءاً بكليات الأشياء فأفَْضَلُ الأشياء أعليها ، وأعلى الرجال ملوكها ، وأفضل الملوك أعمها نفعاً وخير الأزمنة أخصبها . ولا غرابة في أن يصدر قوياً جزلاً يضع الأمور في نصابها من حكيم من حكماء العرب وهو من أشرافهم وكبار محكميهم ، وقلَّ من جاراه من خطباء عصره في معرفة الأنساب وضرب الأمثال .

لقد أراد أكثم من صيفي من خلال ما بثه في خطبته من الإرشادات والنصائح أن يوضح لكسرى السياسة التي يتوجب على كسرى إتباعها مع من يقوم بقيادتهم من قومه الفرس ، وما يقتضيه الأمر من إتباع السياسة القائمة الحق وحسن التعامل مع الجيران ، ولاسيما العرب المجاورين للفرس . ولعل الخطيب يلمح لكسرى خطل سياسته وعلاقاته مع العرب القائمة على عقدة النقص في نظرته للعرب([48]). ويبدو أن هذه العقيدة تقف وراء الحروب التي شنها الفرس على حدود الوطن العربي لا تؤكد إلا عقدة النقص آنفة الذكر .

لقد جاءت الخطبة متسمة بقلة المجاز ، وحسن لإيجاز ، جامعة حلاوة الألفاظ ودقة المعاني ، موشحة بالأمثال التي تزيدها جمالاً ورونقاً ، واستعمل الخطيب أسلوب الإقناع بالبرهان ، ومن خلال النثر المرسل .

وهناك من يجرد هذه الخطبة من مقومات الخطابة ، إذ يراها طائفة من الأمثال لا تربط بينها وحدة موضوعية ، وليس فيها أقسام واضحة([49])، وإذ لا نرى هذا الرأي مسوغين لذلك بأن معاني الخطبة عامة ، إذ تتناول فيما يجب أن نكوّن علاقة السلطة بالناس الذين تقودهم معتمدة أسلوب البرهان والمحاججة . أما عدم وضوح أقسام الخطابة فلعل مرده أن خطابة أكثم قد جاءت عقب كلام لملك الفرس الأمر الذي جعل الخطيب يحذف افتتاحيات القول بعد انتفاء الحاجة إليه بما سبقه من كلام . إذ أن الخطيب العربي عندما يخطب يقوم شخص آخر بترجمة الكلام إلى اللغة التي يتكلم بها الملك الذي يخاطب زعيم وفد العرب ، ونضيف بأن ارتحال الخطبة وروايتها يقف سبباً آخر في عدم وضوح معالم الخطابة في عصر ضارب في أعماق التاريخ البعيدة ينبغي أن نقيس الأمور بالمقاييس السائدة عصرئذٍ .

الصفحات