كتاب " أصل وفصل " ، للمؤلفة سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أصل وفصل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
جــدي الفنـان
وجدي أيضا كان غريبا في جو غريب. كان فنانا بالفطرة رغم عمله بالميكانيكا. كان يدير – في ذاك الزمن المتأرجح بين حوافر تركيا المندحرة وجيوش الحلفاء المنتصرة – جهازا أسموه بالبابور. كان جدي يدير البابور (المطحنة). يفكّه بيديه كلعبة أطفال. يزيل الصدأ ويزيته ويشحمه ويجعله يدور مثل الساعة. كان يحبه، يحب البابور. يحب الصوت المندفع من أركانه مثل المدفع. ومن ذاك الصوت ورعشات الأذن المرتجفة تحت الضربات المنسجمة مثل الإيقاع يسمع نغمات ومقامات تعصف جوَّاه مثل الشهوة ونداء الجنس، فيهرع للدار مثل المجنون، ويخرج قانونا مخبوءا خلف خزانة ويبدأ بالعزف. وتراه ستي منشغلا عن كل الدنيا ومن فيها بتلك الأوتار، وشعره منبوش كدجاجة وأصابعه مثل الأسماك تسبح وتلعبط وتتقافز وتصدر ألحانا عاصفة ثم رقيقة، فتهمس بخشوع: هس، ولا كلمة، خليه يرتاح. كانت تحسّ، كانت تفهم، أن القانون بالنسبة له حاجة ملحة مثل التفريغ، مثل الشبع، مثل الشهوة ونداء الروح.
وجدي أيضا كان ذكيا، كان يفهم لغة الأرواح عبر القانون وصبا ونهاوند وسيد درويش. أما أخوها وكان جميلا بعيون زرقاء خابية، مثل الإفرنج فكان غبيا. كان أبوها يجلس ليلا؛ ليسمّع للولد سور القرآن والمحفوظات وجدول الضرب وما تعلمه عند الكتّاب. يقول له بصوت هادر: سمّع، اقرأ. فيرتبك الولد ويتلوى، ويقول عن السورة صورة، وعن القدَر قِدر، وعن خمسة بستة تساوي ستين. فيصيح أبوه:وَلَه يا حيوان، لسه امبارح كانت ثلاثين. وَلِه يا زكية. وتكون هي عند الكانون تُحمِّص أرغفة الخبز:
- وَلِه يا زكية، خمسة بستة؟
فتقول بخوف:
- تساوي ثلاثين.
- وسبعة بأربعة؟
- 28.
- وسبعة بسبعة؟
- 49.
فينزل بالكف على عنق الابن، ويقول بغيظ:
- شايف يا حمار؟ حتى البنات تعرف هذا. وأنت أتيس من أتيس بنت.
ويلتفت إليها، ويسألها:
- وشو حفظتِ كمان؟ هات لنسمع!
فتبدأ بقراءة ما حفظته عن ظهر قلب وتتلو القرآن والمحفوظات وجدول الضرب من غير كتاب. يعني ستي كانت أشطر، لكن أخوها الأفندي هو من أرسلوه إلى الكتّاب. أمّا هي، فظلت أميَّة على السكين. لكنها رغم ذلك كانت موهوبة وقوية وتحب الحياة. وحين كبرت صارت زوجة رجل صنديد يدير البابور، مثل الساعة ويعزف القانون مثل المجنون، ويمشي على الأرض فيهزّ السوق. ورغم ذلك فلم تكن تسمع كلامه حين يمنعها عن الزيارات والاستقبالات.كانت تحب الزيارات وشم الهوا. تخرج من الدار وهي تهرول حتى لا تضيع فقرة صغيرة مما يقال أو يقدم عند الجارات. وفي يوم ما حلف عليها إن هي خرجت ألا تكون على ذمته حين ترجع. فتحت الباب، وقالت بعناد:
- لأ، أنا خارجة.
- وتكوني طالق يا زكية؟
هزّت كتفيها وأعادت:
- لأ، أنا خارجة.
- طب والطلاق؟ أنا صرت حالف!
- اخرج فتوى من عند الشيخ، دبِّر حالك.
ولفّت غطوتها على رأسها وشدَّت الرضيع إلى صدرها وخرجت تركض. وجلست في العرس وهي تصفق مع جموع النساء. وحين صاح الطفل ألقمته ثديها، وهي تردد لازمة الغناء لامرأة ترقص وتتمايل وسط النسوة ثم أخرى ثم أخرى حتى انتهت مراسيم العرس. وحين عادت كانت الشمس قد غابت وشبابيك الجيران مغلقة ويغطي الزقاق ظلام دامس. ورأته يجلس على العتبة ينتظر بحزن. كان الغضب قد تلاشى وحلَّ محلّه حزن ساحق. إذ أن زوجته الجميلة أم الأولاد باتت طالقا وحراما علية. فبعد خروجها ولومها لعدة ساعات لام نفسه؛ لأنّه تسرَّع وحلف اليمين وخرَّب بيته. وقد كان عليه أن يتوقع أن زوجته الجميلة كانت تختلف عن كل النساء؛ لأنّها سليلة عائلة شريفة تمتد أصولها إلى جذر النبي. يعني عائلة مشهورة بأصالتها وشهامتها وانكشاف السر واختراق الغيب. فأبوها شيخ متصوِّف، وجدها ولِيٌّ له حضرة، وجدتها معروفة بقدرتها على مكالمة الجن ورؤية أحلام تتحقق في وضح النهار. وهكذا عاد إليها أو عادت إليه عبر الفتوى. استخرج فتوى من عند الشيخ، وأخرج كفّارة، وصام عن الأكل ولم يقرب زوجته عدة أيام. ومن ذاك اليوم حرّم أن يرمي عليها الطلاق أو يمنعها عما ترغب. يعني ستي كانت أقوى. لكنها رغم القوة كانت أميِّة على السكين. ولهذا حين مات الزوج بضربة بابور سحبه إليه وفرم نصفه، وجدت نفسها من غير معيل. إذ أن ميراث الفقيد صار هباء حين سرقه كبير العيلة، سليل العائلة النبوية وكليم الجن.