كتاب " أصل وفصل " ، للمؤلفة سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أصل وفصل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كبـير العيلـة
كان عمها، كبير العيلة، رجلا مهيبا محترما بجبّة واسعة كالوطواط وعمامة ضخمة بحجم القدر. كان يجلس في حوش الدار حول البركة تحت النارنج، فيقصده الناس للتبرك وسماع النصح من الشيخ الجليل ذي العمامة والأصل الشريف. كان يحفظ سور القرآن، وأحاديث الرسول، وما قال علي، وما قال عمر، يفتي ويشرّع ويفسّر، ويقول للناس: صوموا تصحّوا. فيسألونه: حتى المرضى؟ فيقول بثقة: الصوم يشفي من القرحة ومن الغازات. وكذا الزواج المتعدد يشفي من الفسق والغواية وحب النسوان. كما أن اللحية الممتدة تحد من الفتنة والإغراء. ولهذا كانت لحيته مثل الجاعد، وفي ذمته طابور نساء، وفقّس منهن مليون ولد. فكنت ترى أنحاء الدار مثل الحسبة وسوق الإثنين. لكن الحوش حيث الديوان والدكَّة ونصف دستة من الأراجيل، كان مزارا لا يدخله إلا الوجهاء والمحتاجون ومن كان بحاجة للفتوى حتى يأمن معصية الله.
إذن عمُّها كان شريفا من أصل شريف. لهذا حين مات الزوج وخلَّف لها ألف مجيدية ذهبية وسبيكة ذهب ذهبت للعم فور الحادث، وقالت همسا: خذ يا عمي. ألف مجيدية ذهبية وسبيكة ذهب مال الأيتام. خذ خبئها حتى تنتهي مراسيم الدفن وحصر الإرث وما شابه. أطفالي القصر سيكونون تحت وصاية عدة أعمام. وهؤلاء هل هم أمناء؟ هل هم تقاة ويخافون الله؟ أنا لا أعرف. لكنك أنت، أنت عمي. أنت الكبير المتفضل على كل الناس. خذ الأمانة وخبئها حتى نضمن حق الأيتام. قال: طيب، بالحفظ والصون. وأخذ الأمانة وخبَّأها ونسي الموضوع.
حين عادت لتذكره بالأمانة، قال بغضب: أي أمانة؟ قالت: مجيديات وسبيكة ذهب! نفخ الدخان ولوى بربيش الأرجيلة، وقال بدهشة: أي مجيديات وأي سبيكة؟! قالت: التي أعطيتك إياها قبل الدفن. وأخذت تبكي. فأمسك لحيته، وقال بعطف: اسمعي يا زكية يا بنتي. بدك زكاة؟ بدك صدقة؟ حاضر، على راسي، من عيوني. لكن تقولي لي مجيديات وسبيكة ذهب؟ عندك ورقة؟ عندك شهود؟
قالت بذهول:
- لا عندي ورق، ولا عندي شهود. أنت عمي.
أمسك لحيته وشد بها، وهي تبكي وتجوح وتنوح.
قال بأسف:
- لا حول ولا قوة إلا بالله. خذي يا بنتي. خذي هذا المبلغ عن روحه.
نظرت إلى المبلغ بين يديه، وسألت بذهول: "عشر مجيديَّات ؟!"
قال بإشفاق:
- هذي المجيديَّات عن روحه، لستر الايتام.
خرجت من عنده وهي تنوح، ووقفت في الحوش تحت النارنج، وأخرجت ثديها ونظرت للسماء، وقالت: يا رب، بجاه النبي وملائكتك، تقطع أثره وتعمي بصره وما تخلي في بيته نور ولا نار. بجاه الرسل وملوك الجن اخفض قدره، واهدم حجره، ويدور شحاذ من دار لدار.
وهذا ما كان. إذ فقد عائلته في زلزال كبير هزّ الدنيا، فانهدت الدار على من فيها. وحين سحبوه من تحت الردم كان ضريرا، ومات فقيرا، وأمضى ما تبقى من عمره يشحذ قوته عند الجامع ويدور شحاذا ذليلا من دار لدار.
أما ستي، فلجأت للرفو والماكينة. ففي ذاك الزمن من التاريخ وما خلفته تركيا من فقر وقحط وأمية، فقد كان الناس، حتى الوجهاء، يلبسون المرقوع والمدوّر ويخيطون ملابسهم عند الخياط. وستي الموهوبة الذكية بدأت بالرفو والترقيع ثم ترقّت وصارت تخيط القنابيز والبراقع، وصارت مشهورة بموضتها وأناقتها والدرزة النظيفة المخفية من غير حواش مهملة أو قطبة نشاز. ومع ذلك، ظلت تسترشد بضوء القمر وانكشاف السر عبر المرآة. لكن القمر والماكينة لا يستويان، إذ مع الوقت طغت الماكينة على المرآة ودخل القمر دائرة الظل وكذا ميراث آل قحطان.