أنت هنا

قراءة كتاب الحب والحيرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحب والحيرة

الحب والحيرة

كتاب " الحب والحيرة " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 5

في لحظة خاطفة أزيح به خطوات باتجاه ساحة النصر، انحرف يساراً نحو ما يتصور أنه شارع المشجر، التفت يساراً، لم ير عيادات الأطباء.. تذكر أوجاعه في الفقرات السفلى، خفق برقبته مرتين، أحنى ظهره إلى الأمام، لم يحس فيها بألم، انحدر شرقاً باتجاه ما يعتقده أنه القصر الأبيض، قبل أن يقطع الشارع القصير شعر بأشخاص ينسلون من الشوارع القصيرة والمتفرعة مما حسبه ساحة النصر وشارع السعدون، يسرعون الخطى، يسيرون باتجاه شط كبير، أمواجه تنضح أمام ناظريه، وبخطوات تقارب الثلاثين أو الخمسين، رأى مشهداً يثير الدهشة والخوف، على جانبيه أربعة أشخاص ذوي قامات طوال بأيديهم حبل غليظ يوصل بين الضفتين، يرتفع عن السطح بما يقارب ثلاثة أمتار.

وبجانبي المؤمن جمع غفير يتدافعون ويتزاحمون على العبور، شعر بالخوف عندما رأى عدداً كبيراً من الناس يتساقطون في الشط غرقاً، يسقط كثير منهم في بدايته، وأقل منهم عند منتصفه، وبعضهم قبل الوصول، ومن الناس من يعبر بسلام.. وجد المؤمن نفسه مدفوعاً برغبة أو رهبة إلى التدافع والزحام، بينه وبين الرجلين القوامين على العبور ما يقارب ثلاثة أمتار، ناداه القوام الذي على اليسار :

- تعال صبيح تعال.

أحس بالاطمئنان، كأنه يرعاه ويفضله على غيره، التفت نحوه المتدافعون وأخذوا ينظرون إليه بحسد، مد القوام يده اليمنى نحوه، أحس بها تطول حتى وضع يده على يافوخه وسحبه، انفض المتدافعون عن طريقه، اعترضه القوام المقابل واضعاً يده أمامه وكأنه يمنعه عن العبور، وسأله :

- أقتلت مسلماً أو نفساً بريئة من أي مذهب أو ملة؟ أجابه الماسك بيافوخه :

- لا، لا، لم يفعل، صبيح مؤمن.

وضع قدمه اليسرى على الحبل متوجساً، وإذا بالحبل يتسع طريقاً سهلاً وجسراً ممهداً. ركض المؤمن فرحاً حتى قطعه بخطوات، نظر إليه القوامان في الضفة الثانية بوجهين مستبشرين، حيَّاه بكلمة «سلام» انحدر خطوات. وجد نفسه يمشي في فضاء فسيح، تقطعه شوارع عريضة وطويلة، وكأنها طرق خارجية تنحدر من مدينة كبيرة.. صعد به نحو الشمال إلى ما يتصور أنه طريق يؤدي به إلى ساحة الطيران في الباب الشرقي.

لاحت لناظريه مدينة قريبة، مرَّ قبلها بساحة إلى يساره تؤدي إلى فضاء، فيها رافعات عملاقة، توحي بأنها معدات إعمار أو بناء، تنصب أمامها عجلات ضخمة لا يقل قطرها عن مترين، تتحرك إلى الأمام بضعة أمتار ثم تعود إلى مكانها، وأحياناً تسقط ثم تنهض من تلقاء نفسها لتعاود نشاطها، ولا تتجاوز أو تصطدم إحداها بأخرى تجاورها، أو تعمل أمامها أو خلفها.. ولم يرَ المؤمن أثراً لشخص أو كائن ما يتدخل في حركتها أو يؤثر فيها.. المكان خالٍ والفضاء واسع، وكأن جهازاً بما يشبه «الريموند» يتحكم بها عن بعد، يقدمها أو يؤخرها، وأحياناً يسقطها لمشيئة يجهلها وعلة لا يدرك كنهها.. تبادر إلى ذهنه أنها تبدل دهونها وتجدد مصادر الطاقة فيها، تجاوزها وعبر شارعاً عريضاً يجاورها من جهة الشمال، وقبل أن يقطعه زاغت عيناه يساراً إلى دهليز بين بنايتين ليستا شاهقتين، فيه جنود يرتدون بدلات زرقاء غامقة، على رؤوسهم سدارات بلون بدلاتهم، لا يتجاوز عددهم عشراً، يحجزون أو يفضون نزاعاً بين متخاصمين، أحدهما قوي جبار والآخر ضعيف مسكين، يرفعون الضعيف متقابلين وهو ممدود بأيديهم، رأسه إلى الشرق، يمسك بقدميه خصمه القوي، يجذبه بقوة للفتك به أو الانتقام منه، والجنود يسحبونه جاهدين إلى الشرق لتخليصه والنجاة به، جذبه بقوة، كاد أن ينتصر عليه وأوشك، أن يفترسه.. بدت على الممدود علامات الخوف وحركات تثير الشفقة، لكن الجنود تفانوا في الدفاع عنه، وبجهد شاق استطاعوا إعادة النزاع إلى بدايته.. لمح المؤمن حركات تجمع بين العراك والمزاح، قطع الشارع وفي نفسه إشفاق على الضعيف، تجاوزهم عندما انحرف إلى اليمين، ولم يخطر في باله أن يعرج عليهم ليسألهم عن سبب النزاع بينهما... مشى خطوات، استدار بعدها إلى اليسار ليسلك شارعاً حسبه باتجاه الطيران، وجد نفسه في مدينة خالية من أي أثر للإنسان، والشوارع فارغة من أي أثر للمواصلات، لا يحس بأية حركة ولا يسمع، أي صوت، لمح على يساره بنايات بارتفاع طابق واحد مترابطة بانتظام واحد، أحس بوجود دهاليز فيها، يعجز البيان أن يحيط بوصفها وطبيعة طقسها، وأكثر ما يستطيع القول فيه إنه منعش ولطيف، ولا يحس فيه بلسعة برد أو ضنك حر... استيقظت في نفسه حاستا التأمل والتفكير، أين يمضي، وأي طريق يسلك؟ وإلى أي مكان يأوي؟ ومع من يعيش؟ تذكر بيتاً قرأه في شبابه لشاعر يتفلسف يقول فيه :

ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ في الخلد انفرادا

انتابـه إحساس بالغربـة، وتيقظت في نفسه مشاعـر الحنين إلى أهلـه ومدينته.. تذكـر زوجته وأطفاله الأربعة، والقاصرين منهم خصوصاً عزيزاً وعصاماً، تذكر أن عزيزاً في صباح اليوم الذي خرج فيه ولم يعد إليهم ودعه بقوله:

«وَصَلْ أبوي للكلية، يا الله»، وعندما قطع من الشارع أمتاراً التفت إلى عصام، رآه واقفاً في عتبة الباب يؤشر بيده ويناديه «بباه بباي».. أحسّ وكأنه فارقهم أعواماً وليالي طوالاً، ضاقت عيناه بالغربة، انقبض صدره، أغرورقت عيناه بالدموع، كاد أن يجهش بالبكاء، لولا أنه رآى شاباً مقبلاً نحوه، يبعد عنه بما يقارب عشرة أمتار، لم يفطن إليه من بعيد، وكان الله قيضه له ليسأله عن مدينته... كان الشاب في العشرين، بشرته شديدة السمرة، ذو قامة معتدلة ورشيقة، يرتدي بدلة تستعمل في البيت أثناء النوم، ذات لون نيلي غامق، عندما اقترب من المؤمن سأله على الشكل التالي:

رجاءً أين الطريق الذي يؤدي إلى مرأب مدينة الثورة. التفت الشاب إلى الوراء، وأشار بيده إلى الجهة التي على يمين المؤمن، ونطق بكلمة واحدة لا زيادة فيها ولا نقصان :

أمامك.

الصفحات