أنت هنا

قراءة كتاب الحب والحيرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحب والحيرة

الحب والحيرة

كتاب " الحب والحيرة " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 8

سألتها إن كانت راضية أو ساخطة، سعيدة أو تشعر بالإحباط.

- قالت: لست من هذا ولست من ذاك، ذقت شيئاً من طعم النجاح، وتجرعت مرارة الإخفاق، توافر لك شيء من أسباب المعرفة ونجحت في التحصيل، إلا أنك لم تواكب الحياة، وتسير باتجاه التيار، تعرف ما كان متوافراً في القرية، وتجهل ما يباع في السوق، وما يكتب على الورق، وتجهل ما تتكلم به المخترعات.

- سألتها: إن كان في ذلك غربتها في المدينة وشعورها باليأس وضجرها من الوحدة ورتابة العيش.

- أجابت: أرفق بنا يا عاشور، عليك أن تعمل وتفكر، وعليَّ أن أحس وأشعر، إنزل إلى مدينتك، وامشِ في شوارعها، وتحدث مع أهلها، ثم علل وحلل، واسأل وفسّر.

رجع عاشور إلى مدينته التي رحل عنها قبل أربعين عاماً، يتفرع دجلة عند رأسها، ويحتضنها بذراعيه شرقاً وغرباً، حتى تُسرَح قدماها نحو الفيحاء، إذا نظرت إليها في الخارطة حسبتها فرعاء ممشوقة، وإذا تجولت في شوراعها رأيتها سوداء مكروبة، سوقها الكبير لا يزال يرتدي ثيابه القديمة في منتصف القرن العشرين، يتذكر عاشور، أنّ السوق في صباه كان أجمل وأبهى، بل كان أنظف وأليق، الأوراق مبعثرة، والعربات تزاحم المارة في طريق ضيق يصلح أن يكون طريقاً للسابلة لا شارع سوق، والناس يتدافعون، المرأة تدفع الرجل، والرجل يخشى أن يمسك بها خوفاً من عشيرتها، أيقن عاشور أن سنة التطور فيه مقلوبة على رأسها نحو الأسوأ، أهل المدينة مسالمون لكنهم إذا تشاجروا تنهض وراءهم من عشائرهم أفخاذ وبطون، يتطيرون من الحسد، وهم في ما بينهم على أرزاقهم يتحاسدون، والغالب على طباعهم ويلفت أنظار الذين لا يعرفونهم، إنهم يحلفون كثيراً على الصغيرة والكبيرة، ومنهم من يحنث في يمينه، وقد يلتمس المرء الأعذار على يمينه وقت الضيق أو الشدة في موقف الخوف، أو اضطرار الحاجة، ولكن ما عذر الذين يحلفون على أشياء لا تجلب لهم منفعة ولا تدفع عنهم أذىً.. اعتاد عاشور بعد أن سئم من كثرة ما سمعه من قسم ويمين، اعتاد أن يحلف بكلمة «صراحة» ويؤكد صدقه للشاكين بكلمة «صدقوني»، وعلل ما سئم منهم بفقر الموارد وتخلف العمران وقلة العمل، والمدينة لها تاريخ طويل من الكسل، عرفهم منذ صباه يحبون النوم والجلوس في الشميسة أيام القر والصر في الشتاء، وأجمل أمانيهم أن يقضوا اليوم الغائم الداجن مع بهكنة، وبعضهم من يمضي عليه الأسبوع والشهور وهو نائم تحت الحبوكرة ويطلقون عليها أم الحبوكر، ومنهم من يعيش بقدرة الخالق، وإذا قيض لأحدهم أن يظفر بعمل لاينجزهُ إلا على وفق سياسة «التسخيت»، وذلك أن يعمل بحركة دون بركة، ويصرف وقتاً طويلاً بإنجاز عمل قليل واقتصاد في الجهد.

والرجال منهم خصوصاً لا يتزاورون ولا يتجولون، ورفقة الصديق لصديقه، أصبحت في جداول أيامهم شاغرة، ومشاهدها غابت عن الذاكرة، والمقاهي غير موجودة، ودور السينما مغلقة، والقديم منها رآه عاشور بأم عينه وقد تحول إلى معرض للمرمر والسيراميك، وإذا طرق الصديق على أحدهم الباب لا يكرمونه، ولا يعرضون عليه الجلوس في بيوتهم حتى لو كان من باب الكلام أو الإشارة، والصداقة بمجملها وتفاصيلها لا تعدو أن تكون «السلام عليكم، وعليكم السلام»، وإذا تصافحوا معك مسكوا كفك بقوة وجذبوا ذراعك نحوهم حتى يتماسك كتفك بأكتافهم، والقبلة لا مفر منها، لا ينكر عاشور أن كثيراً من ذلك والغالب عليه هو أريحية ونابع عن طيب خاطر، لكن قبائل منهم محدودة ومعروفة مشهورة في الجنوب الشرقي من المدينة تحديداً، لها باع طويل في الغدر، حتى قيل عنهم إذا ثقب أحدهم ثقباً في الحائط فلا تدخل معه، فلا تأمن أن يومىء إلى أنصاره أن يغدروا بك من الخلف.

اصطرعت منغصات المدينة في نفس عاشور مع ما ألفه في صباه من بساطة الحياة وصدق القول وحب الصداقة وتواصل الجيران، تفاعلت هذه المتناقضات مع شعور بالغربة عن العاصمة التي قضى فيها أيام شبابه ومراحل تحصيله، وقد رحل عنها مهاجراً أو مهجراً بعد أن عصفت بها رياح العنف، رياح جاءت بالغربان، وأطاحت بالسلطان، وأدخلت معها أشكالاً من المتغيرات والمتناقضات، بعضها في صالح التطور والتقدم وآخر يرجع بنا إلى التخلف، شيء من الإعمار والإصلاح، وكثير من النهب والاستلاب، كثير من الناس تحسنت حياتهم في المعاش، وآخرون قد أثروا واكتنزوا على حساب الناس، وبين هؤلاء وأولئك من يفتح فاه للهواء.

الصفحات