كتاب " الحب والحيرة " ، تأليف د.
أنت هنا
قراءة كتاب الحب والحيرة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الواقع الجديد بما فيه من تذبذب بين الحاضر والماضي البعيد، كان مخيباً لآمال عاشور في بحثه عن الصديق الملازم والقائل الصادق والجار الذي يتواصل.. شكا متاعبه تلك إلى صديقه عمران الشيخ، لم يخرج الشيخ عن الصداقة المألوفة في المدينة وحدودها المعروفة والمحصورة بين «السلام عليكم، وعليكم السلام»، ولم يكن الجامع بينهما السّير على دجلة، أو التجوال في السوق، أو جلسة في مقهى أنما يلتقيان على وفق متطلبات العمل وحب المعرفة ومزاج يحسان به ولا يفكران فيه، كلاهما متوسطا القامة، يقتربان قليلاً من النحافة بدرجة واحدة، ذوا بشرة بيضاء مع ميل قليل إلى الاصفرار تحس به وكأنه من بقايا الحصار، يميلان إلى الهدوء ويكرهان العنف، وإن كان عاشور قد مر بشطحات منه في شبابه حتى الأربعين لكنها قليلة ونادرة إذا ما قيست بالآخرين، إذا تكلما وتأملت مخارج الأصوات في نطقها؛ حسبتها من دير الزير أو البو كمال أو حصيبة، وقد سمع عاشور بعض الناس يقول له: أنت من كبيسة، والجامع بينهما أنهما ينبضان بقلب عراق، قد تحررا من شوائب النعرة وعصبية القبلية ونصرة الظالم، كان عمران الشيخ يكبره ببضع سنين، ويختلف معه في التحصيل، يجيد الانكليزية ويتواصل مع جمعية في سدني وله معارف في بيروت، وعاشور يجيد العربية ويتكلم بلغة البادية يعرف طبائع المعدان، ولم ينعم بالسفر ويطلع على تطور البلدان.. كان عمران الشيخ نقي القلب لين الطبع لم تقصر يداه عن المساعدة، أعطى شكوى صديقه عاشور إذناً صاغية وقلباً مشفقاً، قال له:
لك مالي وعليّ ما عليك، وطِّن نفسك وتقبل ما أعرضه عليك، ما رأيك أن أعرفك على امرأة ذات دِلِّ وجمال، تسد عليك فراغك، تساعدك وقت حاجتك، ولا تغدر بك، تواصلك متى أردت أو أحببت ولا تنقطع عنك إذا بعدت.
استبشر عاشور وانفتحت أسارير وجهه، وقد أثلج كلام الشيخ قلبه، لم يتردد في القول :
لك عليّ فضل إذا انجزت، وأرجو ألّا تتأخر في تحقيق ما وعدت.. ضحكا سوية وانطلقا يتهامسان ويدردشان.. سلكا شارع دجلة، وعندما اقتربا من مدخل السوق الكبير، قال عاشور :
- أندخل من «حلك السوك المسكوف» عبارة سمعها منذ صباه، وكأن السوق لديهم جوف بعير، قال عمران ضاحكاً :
- لا، أخشى أن يأكلنا السوق، ولا طاقة لي في مدافعة النساء، استدركه عاشور :
- أراك تخاف أن تقع بين فكي «همزة الفصل والوصل» وما يتبع ذلك من عواقب «هات الفصل، وخذِ الوصل»، ومن أي نسب جئت وإلى أي حسب تعود ومن أي بطن خرجت وعلى أي فخذ تسير. خفق عمران برأسه وهو يتمتم. مسك عاشور من زنده الأيمن ودفعه عن مدخل السوق كي يواصل سيره، تجاوزا المدخل بما يقارب عشرين متراً، انحرفا يميناً، وسلكا شارعاً ترابياً ضيقاً خالياً من الباعة والمتجولين، ينام الصيف كله تحت الشمس ممرغاً بالماء الثقيل وفي الشتاء ممطوراً مزكوماً دون غطاء، تتكرم عليه يد العمران منذ أن أسست المدينة أيام بني عثمان، استأجرته القطط والفئران من بلدية المدينة بعقد مصدق وموثق، شرطه الأساس أن تنام فيه القطط والفئران الليل كله، حتى إذا انبلج الصباح تسرح وجهها نحو المزابل والأوساخ، تأكل ما يفيء الله عليها من المطاعم والدكاكين، تكفي عمال البلدية مؤونة الجمع والتنظيف، تعفى مقابل ذلك من فاتورة الطعام، وتكفل البلدية لها الحماية من الملاحقة أو المطاردة.. تذكر عمران وعاشور بنود العقد هذه بمزاح عندما شاهد قطة تنفر من هنا وفأراً يلوذ هناك، لا يتطلب السير في الشارع المتخلف إلا عشرات أمتار، حتى يفضي بهما إلى شارع متطور هو باتفاق الغريب والقريب قلب المدينة النابض، فيه التبضع والتدافع والتشاجر، يتقاطع مع السوق الكبير، يحتضنه بذراعيه ويسرّح قدميه جنوباً لتنام عليه شوارع المدينة القديمة، انحرف عمران وعاشور نحو اليمين بانعطاف قليل نحو السوق، خطوات متباطئة خفق معها قلب عاشور، انتابه شعور بتردد بين الخوف والخجل، يخاف أن يفشل معها وهو بحاجة شديدة إليها، ويخجل منها لأنها بمواصفات ومؤهلات تتفوق عليه، بأي طريقة يتعرف عليها، وبأي أسلوب يتحدث معها، وهو لا يجيد أساليب التعرف والتصرف، أيرفع لها بحاجبيه أم يعض لها بإحدى شفتيه، أيبتسم معها أم يضحك بملء شدقيه، لم يتخذ بذلك قراراً وترك الحبل على غاربيه، دخلا باباً عريضاً، اجتازا ثلاثة أمتار، ثم انحرفا يساراً، وجدا قاعة عريضة وطويلة تجلس على مقاعدها خمس أو ست نساء، تقدم عمران بجرأة وتأخر عنه عاشور بخطوة أو خطوتين، حتى بلغا الزاوية اليسرى، رأى عاشور أمرأة شقراء ذات طلعة ورقاء، تسرح شعراً قصيراً تبرز صدرها، وتباعد بين منكبيها، سلم عليها عمران، تصافحها وصافحها وجلس على مقعد مقابل لها وقريباً منها، اعتصم عاشور بالصمت وجلس على مقعد خلف عمران بزاوية تواجهها.. أخذ عمران يغازلها بمفاتيح يحملها، وبطريقة يشاهدها عاشور ولا يفهمها، وكأنه يمارس السحر معها، وإذا بها بعد دقائق معدودة تبتسم معه، وتكشف له عن صدرها. أحس عاشور بالغيرة، انتابه شعور بالحسد، وقد نسي قبل أيام كان يأخذ على أهل المدينة التحاسد في ما بينهم، وقد تحول اليوم إلى حاسد غيور، والشيء الذي فهمه وأيقنه أنها تجيد الانكليزية بطلاقة، ولا تستعصي عليها العربية، تتصرف بفنون القول وتعرف كثيراً من العلوم، التفت عمران الشيخ إلى صديقه مشيراً بيده اليسرى نحوه قائلاً لها :
- أقدم لك صديقي أستاذ عاشور.
هي لم ترد، أطالت النظر إليه وكأنها تبحث عن مواطن القوة والضعف في شخصيته، تردد عاشور بين النظر والإطراق، قالت له:
- أتعرف القراءة والكتابة ؟
- بذلت جهداً وقضيت وقتاً من صباي وشبابي في تقويم اليد وتثقيف اللسان، لكن البصر قد رابني منذ بضع سنين، فأصبحت لا أقرأ ما يكتبون ولا يقرأون ما أكتب، أخرجت نفساً فيه صوت من أنفها مع تمتمة قصيرة، قالت :
- يصعب عليك التعامل معي في الاهتداء إلى مفاتيح أسراري والدخول إلى مسالك طرقي والخروج منها .
شعر عاشور بالإحباط وأخرج من صدره حسرة واحدة أشار بيده اليمنى إلى عمران، قائلاً:
- أستعين بأخي وصديقي. التفت عمران نحوه وهز برأسه إلى أسفل.
- بسيطة.
أطرقت إلى الأرض برهة سألته :
- أي لغة تجيد وتحب؟
- العربية، أحبها وأحس بها «نجمة قطبية وأطلَّتْ نص الليل أعليَّ»(2).
رنت بنظرها نحوه، هز عمران الشيخ رأسه مرتين إعجاباً بروعة صديقه في التعبير العاطفي ولعله يستميل قلبها إليه. قالت :
- وما مقدرتك في الانكليزية ؟
- أعرف منها أشياء لا بأس بها: سألته من باب الاختبار :
- What is your name?
- My name is A’ashur.
- What is my name?
- Your name is ستوتة (3)
ضحك عمران الشيخ بملء فمه.. ظهرت على شفتيها ابتسامة خفيفة. ثم قالت :
- الغربيون يسمون المرأة «مسز» والعرب يطلقون عليها سيدة أو آنسة، ويقتربون من الغربيين عندما يقولون عنها «ست»، ولم أسمع أحداً يقول لها «ستوتة» إلا أنت. احمرت وجنتاه وأطرق قليلاً، ثم قال :
- أرجو المعذرة، لأن ظروفي الخاصة لا تسمح لي بمسايرة التطورات السريعة، قالت :
- هل تعرف شيئاً عن المخترعات ؟