أنت هنا

قراءة كتاب الحب والحيرة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الحب والحيرة

الحب والحيرة

كتاب " الحب والحيرة " ، تأليف د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 6

انطلق الشاب على رسله دون مبالاة أو إشفاق على السائل، ولم يخطر في بال المؤمن أن يسأله عن المدينة وأهلها والمظاهر التي تثير الدهشة والتعجب فيها.. مضيا لحاليهما، وكأنما لكل منهما شأن يغنيه.. شعر صبيح المؤمن بالارتياح، تصور أن المسافة التي تفصله عن الطريق المؤدي إلى مرأب الثورة والمتفرع عن ساحة الطيران لا تتجاوز بضع مئات من الأمتار.. مشى خطوات وفي نفسه أحلام، أن يشتري تفاحاً ورماناً لعزيز وعصام، التفت إلى اليمين، لم يشاهد محطة الوقود.. صعَّد ينظر قليلاً، لم ير أثراً لكنيسة الأرمن شعر أنه يمشي في طريق لم يسلكه ومدينة لم يشاهد مثلها، حتى اقترب من ساحة كان يحسبها الطيران.

كانت الساحة كبيرة باتساع ورحبة، تتفرع منها أربعة شوارع عريضة، على جنباتها أرصفة ذات فسحة، وبين كل شارعين تجلس عمارة أنيقة ذات اعتدال في الاستطالة، تقارب في الارتفاع خمسة عشر طابقاً، شبابيكها متقاربة، ذات متر ونصف في الطول وأقل من ذلك في العرض، مصنوعة من الألمنيوم، أو مادة تشبهه، مغلفة بزجاج عاكس، والعمارات مطلية بلون أبيض مصقول.. أحست عيناه بملاسة فيها متناهية، ولم تر أثراً لخدش أو عيب من قدم أو استعمال أو تخريب.. أبوابها والشبابيك مغلقة بإحكام، لا دليل فيه ا لوجود ساكنين مستيقظين أو نيام.

- لم يشعر المؤمن بضنك حر أو وخز برد، ليس فيها نسيم أو هواء، أو أثر لغبار أو سحاب، وطائر يطير في الجو ولا ورقة تسقط من شجرة.. الطقس مشرق ومنير ولا وجود لشمس أو قمر أو نجوم، لحمرة أو صفرة في الإنارة، لكنها تميل قليلاً إلى البياض بما يتناغم مع طلاء العمارات، والعمارات من أعلاها إلى أسفلها، والشوارع بمتونها وحواشيها كأنما غسلت بالماء والصابون.. تأمل صبيح المؤمن في هذه المعطيات، وأدرك من خلال ثقافته الفيزيائية أنه في مكان خارج نطاق المجموعة الشمسية. وقف في أحد أركان الساحة، وبالتحديد الركن الذي ينتهي عنده الشارع الذي كان يتصور أنه قادم من القصر الأبيض، ظهره إلى ما كان يعتقد ساحة التحرير، وجهه باتجاه محمد القاسم والطريق الذي أشار إليه الشاب الأسمر بأنه يؤدي إلى مرأب الثورة.

تأمل في المعطيات السابقة ولا يزال يتأمل، ولقد ساعده على التأمل بصر حديد، وبصيرة في الاستشراف، ونفاذ ذهن في التفسير والمقارنة، فكر أن يصيح بصوت عال لعل أحداً في مرأب الثورة يسمعه فيهتدي إليه، وإذا قيض لهم أن يأتوا بقضهم وقضيضهم، ماذا سيفعلون؟ أيعيشون فيها بسلام أم يتنازعون؟ أيحافظون على عمرانها وجمالها أم تراهم يخربون ويحرقون؟ أيصلحون فيها أم يفسدون؟ أيسفك بعضهم دم بعض على سمكة اصطادوها من بحيرة صدام كما فعلوا بعد السقوط؟ حزّت بنفسه مأساة بغداد وما رأى من نهب وسلب وإحراق وسفك دم وأيتام أطفال وإيماء نساء وفرهود بعد السقوط. أحس بالندم وشعر بالذنب عندما وجد ما يشبه التناقض بين تأملاته وأمانيه، أيترك مستقراً طيباً ومدينة أنيقة وطقساً زمهريراً ويبحث عن أخرى ذات غبار وأوساخ وأوحال ومشاكل عشائر؟ وهل وجد أذى مدينته لذيذاً كأنما جنى النحل أصناف الشقاء الذي يجني؟ أيكون التناقض بين الأماني المؤذية ذات الفساد والمثال الخالد الصالح عصياناً؟ ترحم على أبيه آدم في عصيانه ومفارقته الجنانِ. خفق برأسه مرتين عندما تفقد شوارع المدينة الخالدة فلم ير فيها فرداً أو يسمع صوتاً أو يحس بحركة... وجد في الغربة وفقدان الزوجة والأطفال تبريراً للتناقض والعصيان. التفت قليلاً إلى اليسار، نظر إلى الشارع المؤدي إلى جامع الكيلاني في حسبانه، دارت عيناه بين العمارتين المشرقتين على يمينه ويساره بأجفان مصعدة ونازلة، ثم زاغت عينه نحو أقصى اليسار باتجاه الشارع المؤدي إلى جامع الخلاني لعله يتطلع إلى ملامح من كنه المدينة، لكن العمارات المشرفة والمتألقة بين أركانها حالت دون إحاطة النظر بمدى سعتها ومنتهى الإبداع والجمال فيها، إلا أنه استطاع أن يلمح صورة للبعيد غير المتناهي من خلال القريب المنظور، ويستدل على شيء من كنه الغائب المجهول من خلال المشاهد المنظور، وهي أن كل شارع من الشوارع الأربعة القريبة من ناظريه تؤدي، بعد مئات من الأمتار كان يقطعها المؤمن بخطوات، إلى ساحة كبيرة تشبه أختها القريبة، وتقوم بين أركانها عمارات مشرقة هي أخوات في الصنعة والإبداع للعمارات التي تشرق بين ناظريه.

لقد أنعم على صبيح المؤمن بحواس قوية وذهن يقظ وبصيرة استشراف في لحظة لا يعلم مقدارها إلا السلطة التي أخرجت المؤمن عنوة من الكلية قبل صعود السلم. لكنه حرم من حرية الإرادة.. لم يخطر في باله أن يطرق باباً في العمارات، أو يتقدم نحوها لينظر عن قرب في شبابيكها أو يصيح بصوت عال لعل أحداً يسمعه، أو يقطع الطريق الذي قيل له إنه يؤدي إلى مرأب الثورة... كان يتأمل ولا يعمل، وأحياناً يهم بفعل شيء لكنه لا يستطيع أن يفعل، لا يتحرك إلا بإزاحة، ولا يمتنع عن فعل شيء إلا بصرفة، ولا يلتقي بأحد إلا بتفويض.. إنها لحظات لم ير المؤمن أجمل منها، ومدينة رائعة في الإبداع والإشراق لم يشاهد مثلها، ونظافة وأناقة ليس في الوجود شبيه لها، وغربة وحنين لم يمر بلحظة قبلها، وبلحظة لا يعرف مقدراها أزيح به نحو الشمال الغربي باتجاه الخلاني كما يتصور في حسبانه.. مشى بضع خطوات لا تسمح له بالتأمل فإذا به ينحدر في شارع عريض وقصير باتجاه نفق الطيران، وكأنه أعيد به نحو المكان الذي كان فيه واقفاً، يتأمل.. يقترب شكل الشارع قليلاً من المثلث، رأسه في ساحة الخلاني، وينحدر باتساع نحو ما دار في خلده أنه نفق الطيران.. أحس به تموجاً وكأنّ الشارع يتحرك، مشى خطوات، أحس إلى يساره بشخصين يتحدثان. التفت قليلاً، رأى شاباً طويل القامة إلى جانبه، أشقر يرتدي بدلة بُنية يحمل سترتها على ذراعه الأيسر، وقميصاً شكرياً تتناسق معه ربطة عنق.. سألهما عن الطريق المؤدي إلى الثورة، أشارا إلى يسارهما نحو الشارع المقابل له عندما كان واقفاً يتأمل، والذي أشار إليه الشاب من قبل... أحس بتعاطفهما معه، وأنهما يودان مساعدته في الاهتداء إليه، لكنهما اعتذرا إليه بقولهما :

- نحن في عجالة إلى المطار لنسافر إلى عمان، سألهما :

- هل باستطاعتي الاتصال بكما إذا لم أستطع الاهتداء إليه.

قالا :

- اتصل بنا إذا وجدتنا. شعرباليأس لأنهما أوحيا إليه بتعذر وجودهما. سبقاه في السير خطوات ثم اختفيا عن ناظريه.. ضاقت نفسه بالحيرة.. اعترضت طريقه فجأة امرأة ترتدي عباءة سوداء، لم يتحقق من أوصافها، ولم ير وجهها على وجه التحقيق، لكنه كان يحسبها طويلة القامة، انحرفت إلى يساره، وبقي هو ينظر باتجاه طريقه، شعر باطمئنان، تيقّظ ذهنه، واستيقظت في نفسه أفكار وأحلام، خطرت على ذهنه فكرة في لحظة خاطفة، أن يجد معها مأوى، بأن يرافقها ويعرض عليها الزواج إذا لم تكن في عصمة رجل، راوده مشروع كبير أن ينجب نسلاً من بنات وبنين، ليعيشوا في هذه الأرض الطيبة ويسكنوا المدينة المعمورة.. شعر فجأة بالأسى عندما تذكر محنة أبيه آدم وأمه حواء، أحس أن المأساة قد بدأت منذ أن «طفقا يخصفان عليها من ورق الجنة»(1)، وأنّ البحث عنها والعودة إليها طريق شاق ومنال بعيد.. غضب على الشيطان الرجيم، واستعاذ بالله العظيم من غوايته، وبينما كان المؤمن يفكر ويخطط ويتأمل ويستعيذ والمرأة واقفة إلى يساره تنتظر، إذ بصوت عالٍ من أهل الدنيا يناديه فجراً :

الله أكبر الله أكبر

أشهد أن لا إله إلا الله أشهد ان لا إله إلا الله

أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله

الصفحات