أنت هنا

قراءة كتاب رمادية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رمادية

رمادية

كتاب " رمادية " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 5

سائقو الأجرة أبطال الثرثرة في هذا الزمان، استولوا على عرش الأفواه التي لا تتعب بعد الإطاحة بالحلاقين، لم أتبين ملامح سائقي الذي بدأ ثرثرته بنعي سريع لشوارع الأمس بعد مقارنة سريعة بطوابير زحام اليوم. بنظرة استعلاء وغضب من عيني صمت، لست مجبرة على مجاملة سائق سأفارقه بعد دقائق. لم يتحدث بعد ذلك وربما كنت أسوأ زبونة عنده لا أبتسم ولا أتكلم وعله يشتمني الآن في سره.

قطعت السيارة على مهلها شوارع حزينة بمحلاتها، بوجوه الباعة حتى المبتسمين منهم. من الراديو انبعث صوت مغنٍّ مع لحن شديد الشجن. بدأت أغرق في سكينة غريبة تشبه الاستسلام، ربما هو الحزن قد انتهى من ابتلاعي أخيراً، مثلما ابتلع الخراب شوارع الموصل، أغلب البنايات في الشوارع الرئيسية قد حفر فيها الرصاص بصمته، دور مهدمة وأخرى كُتِبَ عليها يافطة بالأحمر تقول: لا يباع ولا يؤجر بأمر الدولة سين أو صاد. لافتات نعي بالأسود تنعى كثيرين قضوا إثر حادث غادر، ما أكثر الغدر يا نينوى وما أطغاه، إيه يا أم الربيعين، لم تحلق الصقور في سمائك وكلنا بتنا عصافير مذعورة أشجعنا أحجم عن الهجرة، وأجبننا أطلق ساقيه للريح بعد تهديد تليفوني. رأيت الإرهاب في كل مكان، في وجوه رجال الشرطة الملثمين عكس كل دول العالم التي يخفي فيها اللصوص وجوههم، في تلال الأوساخ التي تفتقد حاوية تلمها خوفاً من عبوة ناسفة متخفية، في عيادات الأطباء المغلقة، في محلات بيع الملابس النسائية التي غلفت وجه الدمية بكيس أسود، لأنه عورة ربما، في قلوب تخاف النبض وشعراء تركوا كتابة القصائد، نخشى الحب وإقامة حفلة عرس، أصبحنا نخاف يا وطني من كل الأشياء.

طال وقوف السيارة في الزحام الغبي. ندفع ضريبة أخرى للخراب على شكل قضاء ساعات ثمينة من وقتنا يومياً في زحام مفتعل بواسطة أجهزة الأمن التي لا توفر الأمن. وصلت السيارة بشق الأنفس إلى نقطة التفتيش المكوّنة من ثلاثة رجال شرطة اثنان منهم كانا يجريان اتصالات غير مهمة بهاتفيهما المحمولين، وثالثهم أدخل رأسه من نافذة السيارة تطلع إلى وجهي ووجه السائق بطريقة غبية سمجة وأشار بيده إلينا أن امضوا بسلام غير آمنين، ارتفع معدل الحنق والسواد في قلبي إلى أقصاه. سأموت بانفجار في قلبي هذا إن لم تقطفني رصاصة غبية لا تفرق بين قلب وآخر، فالرصاص لا يعزف سوى لحن الدم.

قال الصوت:

ـ يكفي يا رمادية فكري في فكرة واحدة مشرقة، انظري من هناك!

هنالك وقف بكامل فوضاه وقذارته، واجماً مفكراً في أشياء مجهولة، مجنون المدينة الأشهر، الرجل الذي هرب من الدنيا على طريقته.

* * *

فلا نامت أعين العقلاءِ(اللقاء ما قبل الأخير)

أسود هو اسمه مرّت العقود ونحن نراه حافي القدمين أشعث الشعر واللحية بجلباب طغى لون الغبار والقذارة الإنسانية على لونه الحقيقي، حين أقول قذارة إنسانية أعني هذه الكلمة بحذافيرها، فالإنسان يمضي وقتاً ليس قليل في تنظيف هذا الجسد المفرز للعرق والدهون المسعورة للاتحاد مع غبار الجو، بيد أن أسود استخسر وقته في تنظيف جسدٍ سيتسخ بعد ساعات. يوجد في الشوارع القديمة الرئيسية للمدينة حافي القدمين، يعلّق دائماً حول جيده وذراعه اليمنى حقيبة قماشية مخيطة باليد. لطالما سألت نفسي من صنعتها له؟ مليئة دوماً بالحلوى السكرية غير المغلفة التي تصنع محلياً، لطالما غرف بيديه ووهب حلواه لآلاف البشر، لأناس بالتأكيد يحفظ ملامحهم وأصوات خطواتهم وإيقاعها. على وجهه لا تلمح خبل نظرة المجانين بل تلوح في عينيه الكبيرتين تباريح أسى عميق، يبدو كمن ينظر إلى أشخاص ووقائع لا تدركها أبصارنا. تُقال عنه أقاويل كثيرة منها أن زوجته وكل صغاره ماتوا في يوم واحد إثر تسمم، فجال في مدينة الموصل يوزع الحلوى مجاناً ويزرع الابتسامات على وجوه الصغار والكبار. سمعت مرة إبان معركة القادسية، التي استهلكت مليون رجل عراقي وصنعت أربعة ملايين يتيم، أنه شوهد على الحجابات الأمامية في خطوط الجبهة المتقدة يوزع الحلوى على الجرحى ويسقي المحتضرين. لم أكن لأصدق هذا الهذر بتاتاً لأني فضلت الاحتفاظ بصورته كما اللغز الذي ستحله الأقدار إن شاءت.

شيء فينا ينكسر دائماً كلما رأينا هذا الرجل الغريب، فلا نستغرب قدميه الحافيتين دهراً حتى استحالتا بجلد متقرن أسود اللون، ولا نتقزز من حلواه المكشوفة الملامسة ليديه السوداوين، نأخذها مسحورين بأحداث ستحصل لنا إكراماً لكرم أسود ونمصها ببطء، بفتنة أيام الطفولة ونمارس الحلم ونتفرس في ما قد يأتي من أجلها ومن أجله.

اقتربت السيارة من أسود حتى أصبح ما بين نافذتي وبينه أقل من متر. فتحت زجاج نافذة السيارة فحدق بي، قرأني جيداً ومدّ يده الكريمة إلى الحقيبة المجهولة واغترف منها وألقى في حضني 4 حبات من الحلوى المدورة المحببة وبينها ورقة صفراء موغلة في القدم، ارتجف قلبي وشعرت بالرغبة في البكاء، مرّ وقت طويل جداً لم أبك فيه. انتظرت وقتاً طويلاً لأستجمع شجاعتي وأسترد أنفاسي قبل أن أفك الورقة المجعدة من طول بقائها بين حبات الحلوى.

قالت الورقة:

ـ المنزل المهدم بين كنيسة الساعة وجامع عمر الأسود.

الصفحات