أنت هنا

قراءة كتاب رمادية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رمادية

رمادية

كتاب " رمادية " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 9

حين نكون صغاراً نظن أن الحياة فصل كبير من السعادة، لكننا نكتشف عكس هذا حين تتوالى الخيبات علينا، ونعي حين نكبر أن الهدنة مع الحزن مؤقتة. مثلما تتصور أي مراهقة أن الزواج فستان عرس وحفل جميل وفارس سيردد مثل الببغاء كلمات الحب، لتكتشف لاحقاً أطناناً من المسؤوليات والهموم الكفيلة بقصم ظهر أكبر حلم.

وأنا طفلة نجحت بإخفاء همومها وأحزانها، كانت تخبئ لي دوماً ابتسامة تخصني بها، تبنتني بحب كبير، فهي من تُعيد تسريح شعري ونحن نتناول وجبة الفطور، حين أطرق بابها في كل صباح لنمضي إلى المدرسة معاً، وهي من تحل أي مشكلة تصادفني ومن تتولى تدريسي إن احتجت، لم يعد العالم مخيفاً بعد رحيل أمي وزواج أبي بسرعة غريبة. في الطريق إلى المدرسة سرنا معاً مرّات لا يمكن إحصاؤها، حدثتها وأنا أنظر إلى الأعلى حين كنت طفلة، ثم وأنا أنظر إلى الأسفل لأني شببت فارعة الطول. وست أمنية كانت قصيرة القامة كما يُقال عنها، مع أني لم أشعر بهذا قط، فهي تشبه الزهور العطرة لونها أبيض متواضع وعطرها حكاية تبدأ ولا تنتهي. ومن يعرفها يدوخ في متاهة العطر ويهمل باقي التفاصيل.

* * *

ذات صباح وبعد أن بكيت طويلاً لأن زوجة أبي نسيت غسل ثيابي المدرسية، تأخرت في الوصول إلى دارها وتصورت أنها تركتني وذهبت، وجدتها على الباب تنتظرني بقلق، لم تسألني ما بي، فهي من علمني نسيان كل ما يحزنني، لأنه فور انتهائه يصبح ماضياً لا أكثر. وهي تمسك بيدي لنعبر الشارع قالت من أجل مواساتي ونفخ شيء من الروح في روحي:

ـ ما رأيك بأن تختاري أنت عنوان موضوع درس الإنشاء اليوم؟

لشد ما أحببتها في تلك اللحظة، لأنها رفعت معنوياتي بلحظة واحدة، ولأنها فكرت فيّ، الصغار بارعون بالإحساس بالحب وبالكره أيضاً، امتناناً لها قلت:

ـ ما رأيك بالأماني يا ست أمنية؟

سألتني: (وماذا تتمنين يا بلقيس؟) لم أجبها رغم أن الإجابة مكتوبة داخلي منذ وقت طويل، باغتها بقولي (سأخبرك حين تحكين لي عن أمانيك)، ثم صمتت وقالت: (لنحث الخطى لا أريد أن نتأخر، الدرس الأول أوشك على البدء).

حين دخلت الصف وابتسمت بوجهنا كعادتها وقالت مثل كل يوم: صباح الخير يا عصفورات. رددنا خلفها:

ـ صباح النور والبلابل والطيور، شكراً ست أمنية.

كل حرف كنا نخاطبها به كان له جرس موسيقي عذب، كنا نغني لها بحناجرنا الطفولية الرنانة، بصفاء قلوب الأيام البيض، هي كانت المعلمة التي لا تصرخ ولا تعبس حتى حين تكون متعبة أو مريضة، أمسكت بالطبشور الأبيض كما قلبها وكتبت على السبورة بخطها الجميل:

ـ (أمنيتي)

ذاك اليوم كتبت أول مرة بحياتي من أجل متعة الكتابة، كتبت بحب، لها لا من أجل الدرس، وبخط فتاة صغيرة، بقلبي الزاخر بالحب:

ـ أتمنى أن أصبح معلمة لغة عربية مثل معلمتي وأمي ست أمنية، وأن نصبح أنا وهي زميلتين حتى لا نفترق أبداً.

بعد الدرس نادتني بعد أن قرأت إنشائي، احتضنتني ودمعة فرح وغبطة تتعلق بأهدابها الجميلة، وقالت سأخبرك الآن ماذا أتمنى.

قربت فمها من أذني قبل أن تهمس:

ـ أتمنى أن أموت وأنا سعيدة، وبين أناس أحبهم.

الصفحات