أنت هنا

قراءة كتاب رمادية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
رمادية

رمادية

كتاب " رمادية " ، تأليف غادة صديق رسول ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 6

قدر الحمائم فصّل على قدرة أجنحتها(اللقاء الأخير)

ترجلت من السيارة قفزاً. لم أتلفت خلفي، قطعت الطريق إلى العنوان بلهفة، حملتني قدماي كأنهما كانتا هنا مسبقاً، منذ وقت طويل، إلى المنزل القديم الذي قدرت عمره بمائة وخمسين عاماً على الأقل. بابه الخارجي وسوره مهدمان، كذلك حال غرفتين أو أكثر منه، الدور والبنايات المحيطة بهذه الخربة عالية جداً. كان الغروب يحث الخطى، لمحت ضوءاً خفيفاً في غرفة ما زالت تحتفظ بسقفها وجدرانها الأربعة، اقتربت، فلم أجد باباً بل غطاءً سميكاً مدلى على فتحة الباب يقوم مقامه.

في داخل الغرفة كان الضوء شحيحاً، سقفها مرتفع جداً، الشبابيك سدت بقطع غير متراصة من الحجر، كانت الجدران من المرمر الرمادي القديم الذي استحال سواداً، أسرة خشبية رفيعة طويلة مغطاة بغطاء قديم سميك تراصت لصق الجدران، سجادة قديمة قذرة لكن فاخرة فرشت أرضية الغرفة، تعودت عيني درجة إضاءة الغرفة، وفي الحقيقة لم يكن الضوء يصدر إلا عن الشخص الوحيد الجالس في الركن الشمالي ورأسه مدلى بين ساقيه، بجرأة تقدمت.

هذا الرجل أصفر اللون بثيابه، شعره، يديه، والجزء الظاهر من رقبته، صفرة باهتة لا تمت بصلة إلى الألوان التي طالما رأيتها، لا تشبه لمعة الذهب، أو لون قشرة الليمون، اقتربت منه كثيراً ولم أجلس تأدباً، حييته وتمنيت له مساءً حافلاً بالخير، أشار بيديه لي أن اجلسي، ثم رفع رأسه إلى الأعلى بهدوء شديد. نعق الصوت من داخل رأسي:

ـ لا تخافي يا رمادية.

ـ من قال إني خائفة أيها الصوت السخيف؟ اخرس الآن.

كل ما في هذا الرجل أصفر: عيناه، رموشه، كأنما نُقع في صبغة صفراء شربتها كل خلاياه. واهن قليلاً، متعب كثيراً، لم يكن يتنفس بل يرمش بعينيه الصفراوين الواسعتين، شفتاه لامعتان قليلاً كأنما ذر عليهما مسحوق الذهب. نظرت إليه مسحورة متلهفة، شعرت بأن هذا المخلوق أجمل ما ستراه عيناي.

قال لي:

ـ اجلسي والتقطي أنفاسكِ.

صوته كان دافئاً وصافياً يشبه صوت طفل في نغمته، لكنه واثق ومتعب كأصوات الشيوخ الحكماء.

لم يطل الصمت بالأصفر حتى سألني:

ـ أسود هو من أعطاك عنواني أليس كذلك؟ هو يا ناديا آخر من زارني في مخبئي هذا منذ أكثر من خمسين عاماً.

ـ كيف عرفت اسمي؟.

ـ أنا الفرح يا ناديا أحفظ كل الأسماء والوجوه والعناوين، حتى المدن المحتضرة مررت بها ذات مجد. كنت أزورك كل عيد وكل يوم ميلاد، كنت أخطو إلى حديقة داركم وأنت عليك قليل من مسحوقي السحري وأنت تشاغبين وتسرقين بيض العصافير. في أعلى شجرة في بستان القرية، حين زرتها حميتك من السقوط وساعدتك على التسلق حتى قمتها وسمعتك تصرخين: (ما زالت السماء بعيدة).

الصفحات