كتاب " المنفى الشعري العراقي " ، تأليف د. علي ناصر كتانة ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
أنت هنا
قراءة كتاب المنفى الشعري العراقي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المنفى الشعري العراقي
يحاول أدب المنفى تغذية الذاكرة الجماعية وثقافة الأفراد الذين يجدون أنفسهم مشـردين خارج أوطانهم[3]. ففي كتابها (جدليات المنفى: الأمة والزمن واللغة والمكان في آداب اللغة الإسبانية- بوردو 2004)، وهي دراسة مقارنة حول كتابة المنفى، تقدّم صوفيا مكلينين نظرية لكتابة المنفى، وترى أن أدب المنفى يُفهم بشكل أفضل على أنه سلسلة من التوترات الجدلية حول الهوية الثقافية[4].
فنحن نقيم في الذاكرة.. والوطن ذاكرة، ننهل منها لكي تستقيم الحياة ولكي نقاوم الواقع القاسي، واقع الغربة[5]. والمنفى في الأدب ليس مجرد قصة بل أيضاً بنية، كما كتبت سيلوا لوست بولبينا حول آسيا جبار. فعندما احتلت فرنسا الجزائر في القرن التاسع عشـر وحولتها إلى مستعمرة، كان الشعب الجزائري، بمعنى من المعاني، مطروداً من بلاده. أي أن الجزائريين طُردوا من بلادهم بينما بقيت الجزائر في داخلهم حتى نيلهم الاستقلال في عام 1962[6].
أي أن الذاكرة الجزائرية المتوارثة عبر 132 عاماً من الاحتلال هي التي حفظت الوطن حياً في الوجدان الجمعي الجزائري حتى قُيّضَ له أن يستقل من رحم الذاكرة. وقد قال الكاتب فلاديمير نابوكوف ذات مرة: "أعتقد أن كل شـي هو قضية حب: فأكثر ما نحبه هو الذاكرة، فهي الأقوى والأقوى".
* * *
لقد "اجتذبت موضوعة المنفى مخيلة الكثير من الكتاب على مدى التاريخ الأدبي، إما لأنهم عاشوا الاضطرار إلى مغادرة بلدانهم الأصلية لأسباب سياسية، أو لأنهم شعروا بالسخط من مجتمعاتهم، وبوعي اختاروا العيش في أي مكان آخر"[7].
يتضمن هذا الكتاب جهداً تأريخياً شبه توثيقي قمتُ به عام 2006 بغية تحرير أنطولوجيا للشعراء العراقيين في المنفى عبر رموز معروفة، لأن النزوحين الكبيرين خلال فترة الحصار 1991-2002 وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 صعّباً من مهمة حصـر جميع الأسماء.
* * *
عانى الكثير من العراقيين من وطأة الشعور بالغربة في وطنهم من جراء التهميش أو الاضطهاد أو الظلم طوال عمر الدولة العراقية الحديثة. فهناك دائماً ثمّة فئة أو فئات مهمّشة لا دورَ حقيقياً لها في صناعة قرار الحياة في الوطن أو حاضره أو مستقبله. ودائماً هناك ثمّة صـراع سياسي يقيمُ مجدَ جهةٍ سياسية على حساب قمعِ الجهة أو الجهات الأخرى. ونتج عن ذلك أن شعرَ الكثيرون بالغربة (أو الاغتراب) في وطنهم. ولا شكّ أن هذه الظاهرة قامت في العالم كله، في تاريخ أي بلد من البلدان في مرحلة من المراحل. والعراق ليس استثناءً في هذا السياق، ولكن الحالة فيه، كما في حالاته الأخرى، أكثر حدّة ومأساوية.
أما غربة المنفى، فهي وجعٌ شعريٌ عراقيٌ قديم منذ المتنبي حتى الآن، علماً بأن العراقيين لم يألفوا المنفى والهجرة بهذه الكثافة - في العراق الحديث - إلاّ في العقود الخمسة الأخيرة التي اُبتليَ بها بلدُهم بأنظمة حكم لا تجيد سوى القمع. وقبل ذلك كانت هناك حالات هجرة فردية ولكنها ذات أهمية قصوى في سياق الحديث عن غربة الشعراء العراقيين. فقد هاجرَ الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي مبكراً في القرن التاسع عشـر إلى مصـر، وتبعَهُ أحمد الصافي النجفي إلى إيران 1919 ثم إلى سوريا ولبنان عام 1934، ثم جاء بعد ذلك منفى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في تشـيكوسلوفاكيا في مطلع الستينيات ومن ثم بدر شاكر السيّاب في الكويت وسعدي يوسف في الجزائر، ومظفر النوّاب في لبنان وسوريا، لتبدأ في عقود لاحقة أكبر هجرة جماعية للشعراء العراقيين، سواء اضطرارياً أو اختيارياً، ولا فرق كبير، فالعلّة واحدة، مبكراً أو متأخراً.
وارتأينا أن يكون الاستهلال بالمتنبي الذي ولد في الكوفة ومات على مقربة من الكوت وزخرَ شعره بذكر العراق. والعراق بالنسبة لنا، غير محصور بكيان الدولة الحديثة، كما يروق للبعض القول بهذا التحديد التعسفي، وإنما هو هذه البقعة من الأرض في وادي الرافدين التي قامت فيها الحضارات الكبرى[8]، وكانت عراقاً يفخر أبناؤه بالانتماء إليه. فهي العراق نفسه الذي ذكره قيس بن الملوح في نجواه:
يقولون ليلى في العراق مريضةٌ
ويا ليتني كنتُ الطبيب المداويا
وهو عراق المتنبي:
وقلنا لها أين أرض العراق
فقالت ونحن بتربان: ها