كتاب " المنفى الشعري العراقي " ، تأليف د. علي ناصر كتانة ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
أنت هنا
قراءة كتاب المنفى الشعري العراقي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

المنفى الشعري العراقي
لم يترك المتنبي لسيف الدولة شـيئاً وقد وصّفَ نفسَهُ بأنه خير مَن تسعى به قدمُ. بَيْدَ أنّ الوشاة من حسّاد المتنبي لم يكلّوا عن محاولاتِهم الإيقاعَ بينه وبين سيف الدولة:
أعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً
أنْ تحسبَ الشحمَ في مَن شحمُهُ ورَمُ
وأخذ هاجس الرحيل يمور في روح المتنبي، يسحبُهُ نحو منفى آخر:
إذاترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون همُ
شـر البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ
وشـر ما يكسبُ الإنسانُ ما يصمُ
وهكذا.. توجّهَ المتنبي إلى مصـر لعلّهُ يجد لدى كافور الأخشـيدي ما يلبّي نداءات نفسِهِ التوّاقة إلى الأمجاد:
كُلَّ يَومٍ لَكَ اِحتِمالٌ جَديدُ
وَمَسير لِلمَجدِ فيهِ مُقامُ
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً
تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
وقد وعدَهُ الأخشـيدي بالولاية على إحدى الديار، لكنهُ حنث بالوعد، فهجرَهُ المتنبي وهجاه بقصيدةٍ لمّا تزل تردّدُها ألسنة الذاكرة العربية، وقد استهلها بالحنين إلى الوطن، ثم هجا كافور هجاءً قاسياً:
لا تشتري العبدَ إلاّ والعصا معهُ
إن العبيدَ لأنجاسٌ مناكيدُ
فاستشاط كافور غضباً وأرسل في أثرهِ جماعةً تتعقبهُ لأسرهِ أو قتلهِ، غير أنهم لم يفلحوا. وكما لمحّنا سابقاً، كان شعر المتنبي يساوي الموت بقدر جدارته بالحياة. فحيث فَشِلَ الأخشـيدي في القضاء عليه ثأراً لدالّيتهِ الهجائية، باغتَهُ ثأر آخر من حيث لا ينتظر، بسيفٍ قديمٍ مسمومٍ بروح الخنجر، وبينما كان عائداً من فارس، بعد أن مكثَ فترةً في ضيافة عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شـيراز متوجهاً إلى بغداد، عرضَ له في الطريق فاتك الأسدي (خال ضبّة الأسدي، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية) ومعه جماعة من أصحابه بالنعمانية غربي بغداد. وتختلف الروايات في سرد رواية قتله والغاية منها ومَن الذي دلَّ خصومَهُ على طريقه.
عندما حميَ وطيس المعركة غير المتكافئة من ناحية عدد الرجال، وبعد أن قُتلَ ولدُه محسّد اختارَ المتنبي الهرب من الموت، فصدمَهُ غلامُهُ بسؤالِ مفاضلةٍ بين التفريط بشعره أو التفريط بالحياة، حين قال له: ألستَ القائل: الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفُني... فردَّ عليه المتنبي: "قتلتَني، قتلكَ الله"، ورجعَ كاراً، فقتلَ زعيم الجماعة وقاتلَ حتى قُتِلَ:
وَأَنا الَّذي اِجتَلَبَ المَنيةَ طَرفُهُ
فَمَن المُطالَبُ وَالقَتيلُ القاتِلُ
ماتَ المتنبي في الخمسين من عمره وهو في عز عطائه، وقد عاش حيّاةً أرّقتْها روحُهُ المتمرّدة التي توازنتْ فيها أناه الشعرية العظيمة:
وَما الدَهرُ إلاّ مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبح الدَهرُ مُنشِدا
مع أناه الفردية الطموحة المتطلعة إلى تخوم المجد:
لي منصبُ العَرَبِ البيضِ المصاليتِ
ومنطقٌ صِيغَ من درٍ وياقوتِ