كتاب " الغربة والتغرب "، تأليف محمد عمر أمطوش ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب الغربة والتغرب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

الغربة والتغرب
مقدمة
أجهل كيف وقف جاري فجأة ورائي حينما أوشكت على دخول داري محملاً بالمشتـريات؟ لم يكن بوسعي تأدبا أن ألجَ بيـتي والاكتفاء بواجب السلام عليه والتبسم. فلقد سبق وأن التقينا بعض المرات منذ رجوعي من العاصمة ولكن في كل مرة كنت أستغل فيها الظرف لأختفي، مثل أن أسرع الخطى نحو سيارتي. لكن هذه المرة وقعت في الفخ ومكره، على نصف ساعة حديث على عتبة الدار.
تشجعت وأخذت زمام المبادرة بالحديث:
- "يصعب خلال فتـرة العطلة أن تجد حاجياتك بسهولة في المدينة، لقد مررت بعدة حوانيت". وجلي كما يبدو أن هناك شيئاً ما يود أن يحدثني فيه، لأنه تابع الحديث مباشرة، ولم يكن للكلام على الحوانيت الـتي تغلق خلال العطلة السنوية، بل على رجال المطافئ الذين جاءوا الجمعة الماضية وأنزلوا رجال الشرطة القضائية على سطح منزلي لمعاينة مكيفات وهوائيات الدار.
سألني ما إذا كنت أعلم شيئاً؟ أصبت بدهشة. وظهرت علامات الفرح على وجهه. وأردف أنه قال لأحد مفتشي الشرطة بأنه يحرس داري خلال تغيبي ولكنه لم يستطع أن يفوز بكلمة شافية من المفتش الذي أغلق في وجهه كل فرصة لإشباع فضوله.
توقفت حركة المرور وسيارة إطفاء تـرفع سلما إلى مستوى السطح ورجال شرطة بالزي المدني ينشطون حول بعض الهوائيات والمكيفات البسيطة: بالتأكيد هناك شيء ما، يستحق الحديث فيه في حر زوال بداية هذا الشهر الصيفي في قلب منطقة أبها الهادئة.
وعاد للكلام مجدداً على صعود المحققين. أحسست بأنني تائه لا محالة فصعدت فجأة على مصطبة الباب وأخرجت المفتاح بعفوية دون أن أظهر شيئاً. غـير أن أباه خرج فجأة من عند بائع الخضروات المقابل للدار محملاً بأكياس: ـ " آه الأستاذ علي، رجعت". وعاد الحديث لنقطة البداية بزيادة عنصر جديد: لقد سمع من بعض الجـيران مع "أنه لا يجب تصديق كل ما يقال"، بأن مهرّب الطابق الثالث وأشار برأسه لدار مجاور) كان يخبئ أكياس مخدرات في هوائيات ومكيفات الجـيران. بالتأكيد لقد تغـير الحي الهادئ. أدخلت المفتاح في فتحته وتـركت يدي قابضة على المفتاح. لا يمكـنني أن أقول لهما بأن ضيوفاً ينتظرونـني ـ وهي الحقيقة ـ فهذا العذر سيبدو لهما بلا شك غـير ملائم بعد الخدمة الـتي قدما لي في السهر على داري. ووجدت عذراً آخر: أخاف من الزبدة الذي أحمل أن تذوب ... تبع ذلك توديع قصير، وما علي إلا تدارك ما قد أكون تـركته من انطباع سيء في أول فرصة قادمة.
ضيفي الذي كان يسمع فقط من الداخل نبرة الصوت العامة قال لي فيما بعد أنه تخيل أنني كنت أؤَنَّب. ربما في نهاية الأمر كانت تلك هي الرسالة الحقيقية الـتي أوصلها الجـيران إلي: " لماذا أنت دوماً غائب عنا؟".
كل برنامج أناسة[18] التواصل الذي أقتـرحه منذ سنوات هو معبأ في هذا اللقاء بين الجـيران. وطبعاً يتعلق الأمر في هذا المشهد بتواصل من الحياة اليومية العادية. ولكن ليس فقط بإيصال مقصود لرسائل شفوية. (بتخليص سريع لمـعنى التواصل)؛ تم تبادل حركات ونظرات وابتسامات. بعضها كان مقصوداً وأخرى غـير مقصودة. بعضها خيل أنها مقصودة ولكن لم تكن كذلك. جـيراني ربما فكروا؛ وفكرت بأنهم ربما فكروا بأن.... الخ.
ومر كل هذا بسرعة دون أن يتوقف سيل المحادثة. وبوضوح فإن التواصل لا يخـتزل إلى الحديث الذي تم بيننا؛ فقد احتوى التواصل على عناصر غـير شفوية ساهمت في صبغ معان على التفاعل. وهذا التفاعل لم يكن إلا لحظة في علاقة طويلة المدى، إذ أن معرفتي بالجـيران قديمة ونتبادل الحديث من حين لآخر على عتبات الأبواب ونتبادل التحية وإن بإشارة باليد أحياناً حين ندخل دُورنا ولكننا لا نتبادل الدعوات بيننا للغذاء وبعبارة أخرى علاقتنا على المدى الطويل هي مدمجة كلية في سلوكيات وثقافة الأحياء الحضرية في مدينة تجمع أناسا من مختلف الأهواء والشعب: احتـرام الجـيرة وحسن التصرف ولطف المعاملة ولكن مع ذلك كل في حرمته. فـهي ليست ثقافة مضارب الخيام أو المجمعات السكنية الشعبية في ضواحي المدن الكبرى فما يفصل من سور عال بيني وبين الجـيران لن يهدم يوماً ما وسيظل كذلك.
وثابت أن ما جرى في تفاعلي مع جـيراني في هذا الزوال هو تأكيد على علاقتنا وعلى انتمائنا لنفس الثقافة.وبكلماتنا وحركاتنا اندمجنا في نفس السيل التواصلي. وبقيت ردود فعلنا بالاثنين معا متـرقبة مستبقة وكذلك عرف كل منا متى يتكلم حين يأتي دوره وابتسمنا وضحكنا أنى تلاءم ذلك واحتفظنا بابتعادنا الجسدي المنتظر في محل عام الخ. وقمنا بتشفير الثقافة الـتي ننتمي لها وتشاركنا في تنفيذ ذلك وهو ما يثبت عضويتنا في هذه الثقافة. فكونك عضواً يعـني أن تكون تصرفاتك قابلة للتنبؤ، مرتقبة كما قال راي بوردويستيلRay Birdwhistell[19] أحد الآباء المؤسسين لأناسة التواصل وزاد على ذلك وارد جودنافWard Goudenough [20] "والثقافة هي كل ما يتوجب معرفته لتصبح عضوا"؛ وكحاصل من ذلك يغدو التواصل من زاوية أناسية تنفيذ/أَداء ثقافة. وهذا يلخص كل القضية أو تقريباً إلا أنه يجب استغلال جيد لتلك المقولات الثلاث عاليه.
ولنتابع تحليل التفاعل مع جبراني.