أنت هنا

قراءة كتاب الغربة والتغرب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الغربة  والتغرب

الغربة والتغرب

كتاب " الغربة والتغرب "، تأليف محمد عمر أمطوش ، والذي صدر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 10

البحث حول وسائل الإعلام يلتقي حسب كاتز ولازار فيلد مع البحث حول المجموعات الصغيرة. وبين وسائل الإعلام والجماهير تأخذ مكاناً متغـيرةٌ وسطية جديدة وهي العلاقات البي شخصية الـتي تساهم في تسهيل أو وضع عقبات أمام سيل الاتصالات.

في ’التأثير الشخصي‘ يعطي كاتز ولازار فيلد نتائج دراسة تمت في 1949 في المدينة الصغيرة ديكاتور في الإلينوا. وقد استجوب الباحثون 800 امرأة في أربعة مجالات قرار يومية: التسوق والموضة والشؤون العامة وارتياد قاعات السينما. وحاولوا معرفة لكل مجال بمن تأثرت المستجوبات وفيمن بدورهن يؤثرون. وعملاً بفكرة الكتلة الثلجية حاول الباحثون إيجاد خـبراء كل حقل ووضع صورة له (حسب السن والوضع الاجتماعي وعقلية القطيع) ورغم عيوب الاستجواب (وكاتز ولازار فيلد هم على وعي بذلك ضمن حدود المجال) فالمعطيات تكشف صورة عامة للزعيم الأفقي وليس العمودي (الوضع الاقتصادي المرتفع) ونسبياً متخصص في مجال وصورته قريبة جداً بمن يؤثر فيه.

ونرى إذاً جيداً كيف أن هذه الدراسة تنقل نفس الرؤية عن المجتمع كالباحثين في المجموعات الصغيرة: المجتمع هو نوع من التشبيك، أو قرن الوعل، تنتقل فيه وتتحرك فيه الآراء على شكل شلالات. كاتز ولازار فيلد أنفسهما يتحدثان عن مسح اجتماعي إحصائي (1959:329): المجتمع مكون من سلاسل وشبكات وقنوات على شكل نجوم كما في تجربة ليفيت. التواصل هو سيل أراء تنتقل. دوكاتير تبدو في الأخـير كمدينة هادئة بقنواتها وبطها وسدودها وأصحاب السدود.

هذه الصورة المائية جلي أنها استعملت لهدف؛ ففي الخمسينات ظهرت أيضاً كمية كبـيرة من الدراسات حول حراس البوابات يعـني الأشخاص الذين بفضل موقعهم المؤسساتي يمكنهم تدبـير اعتـراض ووقف سيل المعلومات في مجال معين. وهنا يتعلق الأمر في الواقع بدراسات حول الصحافيين الذي يمررون أولاً في صحفهم خـبراً أبرقته وكالات الأخبار. ويتعلق الأمر خصوصاً وأيضاً كما دلل على ذلك في دراسة سابقة (بون ووينكين، 1980) بأعمال منجزة حول صحف صغيرة في الميدل ويست (تنتمي لمدن تشبه كثـيراً دوكاتور) وموجهة لتكوين الصحافيين المستقبليين. المخطط النظري يتمثل ببساطة في بعض المقتطفات خارجة عن السياق مستمدة من مقال حيث يقـتـرح كورت ليفين (1947) مصطلح حراس البوابة لأول مرة. وأكمل المجاز البقية.

آلاف الدراسات التجريبية تلك حول التواصل عادت إلينا منقاة ومغربلة ومنظمة ومنتظمة في منتجات علمية جديدة خاصة (في البداية) بالنظام التعليمي الأمريكي: المطبوعات وكتب التدريس. ولنأخذ أحد أشهرها في المرحلة وهو كتاب تيودور نيوكامب ورالف تورنر وفيليب كنفيرس (1965/1970)[59]. هدفنا هو فحص دور وسمات تصور التواصل في النص الذي يحاول إدماج المعارف في كل متجانس تقريباً.

حجر العقد وجوهرة القلادة المفهومية للكتاب بلا استغراب هو التفاعل. ومن ذلك التواصل رئي "كآلية وسطية" بين الأفراد في حالة تفاعل كشكل من الرسل بين "عقلين" لا يمكنها الالتقاء مباشرة:

ولكن بسرعة سيأخذ المخطط والمصطلحات منعطفا أكـثر تقنية. وفي الواقع نلاحظ تأثير نظرية المعلومة (في نسختها النفسية الـتي عرف بها ميـليرMuller وأتنيفAttneave زملاءهم بها): يشفر المرسل، والمتلقي يفك الشفرة والمعلومة هي اختزال للشك.

التعريف الأخـير الذي يرى كتجريد هو من إلهام شانوني، يظهر جيداً مسار التشوه الذي اتخذه تصور المعلومة عند انتشاره في العلوم الاجتماعية. فعند شانون المعلومة هي قيمة مجردة بعيدة كلية عن الاعتبارات الدلالية. ويفتتح نيو كومب وتورنر وكونفيرس فقرة "المعلومة والشك" بطلب موجه إلى "المتخصصين في نظرية التواصل" (1950: 227). ولكنهم لا يستقون معلوماتهم من شانون. ويذكرون مقطعاً من الصفحة الأولى ’تطبيق لنظرية المعلومة في علم النفس‘ لعالم النفس أتنيف (1959) الذي يقول:

"المـعنى التقني لكلمة معلومة لا يختلف جذرياً عن المـعنى العام المشتـرك، فقط هو أكـثر دقة [...] وفعلاً المعلومة يمكن أن تعرف كحاذف أو مخـتزل للشك" (عن نيوكومب و تورنر وكونفيرس، 1970: 227).

هذا التعريف ليس مغلوطاً ولكنه مختلف عما يقصده غالباً شانون وأخصائيو التواصل (خـبراء الاتصالات) بالمعلومة. إن تعريف المعلومة كاختزال للشك يعود إلى القول بأن المعلومة هي العناصر الجديدة الـتي تحمل التفاعل. يمكن للفرد أن يعطي أو يتلقى المعلومة. ولكن اللفظ يفقد إذاك زخمه التجريدي الذي هو عند شانون، رديف الأنتـروبيا السلبية. ويعود لحضن المـعنى العام المشتـرك. وفي الفقرة الـتي تليها المخصصة لتعريف المعلومة كاختزال للشك، يعود فعلياً نيوكومب وتورنر وكونفيرس إلى ’معلومة‘ اللغة العادية. مثلم ما جاء في هذه الجملة: "واقعة الحصول على معلومة من فرد آخر لا يمكن أن تعـتـبر في كل الحالات كتلقي رسالة" (1970: 230).

وبمسارٍ مشابه يتغـير تصور الفعل الرجعي. فبعد أن استعين بوينير للتعريف الأول، الذي قدم "ككاتب صاحب كلمة في شاكلة هذا النوع من المسائل"، يطور الكتَّاب تصورا لرد الفعل الرجعي كمعلومة تعيد وتزود الفرد "بنوع من الأسس لتقييم مشاركته ذاتها في التفاعل". هذا التطوير ليس مغلوطاً ولكنه يرى آليات رد الفعل الرجعي كمرآة بسيطة ويبتعد عن تصور ويـنير المنتظم الذي يتحدث مثلاً عن رد فعل رجعي إيجابي (انفجار النظام بتدرج متساوق) ورد فعل رجعي سلبي (توازن النظام بتصحيحات ذاتية متتالية). ومن هذه التدقيقات لا يحتفظ نيوكومب وزملاؤه بشيء منها. المفهوم المـختزل إلى هيكل مدلوله، المعروض هنا وهناك كطلسم، لا يمكنه أن يقدم هنا شيئاً جديداً للتحليل.

وتوازياً مع المقتـرضات من نظرية المعلومة والسبرانية يدمج نيوكومب وتورنر وكونفيرس في عملهم مجموعة تصورات نفسية تقليدية. ومنها فكرة ’حوافز‘ المرسل استعملت كمعيار للتميــيز بين التعبـير البسيط الانفعالي والتواصل الحقيقي الموجه نحو هدف[60]. وكذلك أيضاً فإن التواصل، أي في آخر المطاف تبادل رسائل بين الأفراد، قد رئي إليه كعملية غالباً مشبعة تساهم في الجاذبية المتبادلة بين المتحدثين. التواصل ’الناجح‘ يغني حياة الأفراد. في البداية لا يكون إلا للرد على الحاجة إلى المعلومة؛ وخلال التجربة الاجتماعية يغدو ويتحول إلى هدف في حد ذاته لأنه يكافئ مستعمليه. ومن الغريب أن نيوكمب وتورنر وكونفيرس يبدو أنهم وجدوا في فقرتهم النهائية حول التواصل نـبرات المرح للخطاب التقليدي حول الحياة الجنسية لزوج سعيد:

"نحن لا نعيش إلا حياة باهتة ومفقرة إذا كان كل منا يعتمد فقط وكلية على علاقاته الخاصة المباشرة مع الأفراد والمواضيع والأفكار الـتي بخصوصها يكون في حاجة إلى المعلومة. ظاهرة الـتـرابط المتبادل هذه من نتائجها مكافأتنا بطريقة متكررة بالتواصل. وهكذا فإن وقائع الإرسال أو التحصل على رسائل يصبحان بالاثنين مكافأة في حد ذاتهما. فما لم يكن في البداية إلا وسيلة يصبح هدفاً في حد ذاته في عديد من الحالات رغم أن التواصل لا يفقد أبداً نفعه الوسيلي" (1970: 270).

هذا الخلط في المصطلحات التقنية المقتـرضة من نظرية المعلومة ومن التصورات النفسية العامة والمواضيع الأخلاقية الوعظية هو الذي سيكون قاعدة خطاب شبه علـمي حول التواصل ومنافعه. ويمكننا هكذا القول بأن التواصل سيبقى علمياً إشكالية، طالما اعـتـبر كحل لكل المشاكل العلاقية والتنظيمية، وأنه لن يصبح فكرياً مقبولاً إلا حين سيعتـبر كمشكل أي كمشكل اجتماعي معقد يستحق أن يدرس بذاته ولذاته.

الصفحات