كتاب " المتاهة " ، تأليف أيمن توفيق ،والذي صدر عن دار الآن ناشرون وموزعون .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قراءة كتاب المتاهة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
المتاهة
إنسان نشيط، لامع الفكر، حاد الذكاء، شديد الاجتهاد، ربما لأن الاجتهاد هو وسيلته الوحيدة لتحقيق ما يحلم به. بدأت معرفتي به بصداقتي لشقيقه الأصغر زميل دراستي، حينما انتقلوا إلى قريتنا التي يسكنها الكثير من أقربائهم، كان ذلك في الإجازة النهائية للسنة الأولى من المرحلة الإعدادية. في البداية،كان دائماً يضجرني بنصحه المستمر لي ولشقيقه الأصغر، وممارسة دور الشقيق الأكبر كثير الخبرات بحكم فارق العمر بيننا وبينه، في تلك الفترة كنت متمرداً على كل شيء، كنت كبيراً من وجهة نظري بالقدر الكافي الذي يسمح لي بمعرفة صالحي، بغضّ النظر عن نصائح الجميع، لكن ذلك الضجر سرعان ما تحوّل إلى صداقة عميقة ازدادت روابطها وتعمّقت أكثر مع مرور الوقت، خاصة مع ذلك التشابه الكبير فيما بيننا، لكنّ الولادة الحقيقية لصداقتنا كانت حينما خرجت من رحم صداقتي لشقيقه الأصغر، مع التحاق ذلك الشقيق بالتعليم الثانوي الفني، بينما باعدني حلم الالتحاق بالجامعة وراودتني أحلامي، فقررت الالتحاق بالتعليم الثانوي العام. في تلك الفترة، بدأت صداقتنا تقوى وتزدهر، وبدأت المسافات بيننا في التناقص رغم تلك السنوات الثلاث التي تفصل بين أعمارنا، ناهيك عن الفوارق الدراسية؛ مع دراسته العلميّة وتخصّصه في العلوم الزراعية، الأمر الذي كان على النقيض من دراستي الأدبية بعد ذلك، في كلية الآداب، تلك التي لم يلقيني في أحضانها سوى معدّلي الدراسي في المرحلة الثانوية، غير مدرك لما تعنيه، أو تؤهّل له من وظائف، وهو الأمر الذي ربما ما زلت أجهله إلى الآن، ولكن يبدو أن تلاقينا كان في الطموح والغاية التي يرغب كلانا في إنجازها في حياته، ناهيك عن واقع اجتماعي متشابه إلى حد كبير، وآمال وأحلام لا نملك غيرها. ساعات طوال رسمنا فيها خطانا للمستقبل على مر سنوات، أحلام وآمال كثيرة ذهبت جميعها أدراج الرياح، فتفوقه الدراسي لم يُحدِث في حياته ذلك الفارق الذي رغب فيه. في البداية عوّل على درجة البكالوريوس لتغيير مسار حياته، ولكن ما جدواها رغم تفوّقه، مع وجود عشرات الأوائل من الحاصلين على الدرجة العلمية نفسها؟ ظلّ يحلم.. لم يفارقه الأمل، فقرر الحصول على درجة الماجستير، وكان عليه بطبيعة الحال أن يتحمل سخرية البعض واشفاق البعض الآخر مما يرونه، على اعتبار أنه يهدر وقته فيما لا طائل منه، ناهيك عن حقد بعض رفاقه ممن غاروا من تفوّقه، لكن تعويله، هذه المرة، على درجة الماجستير لم يُحدِث أيضاً ذلك الفارق الذي رغب فيه، ليكتشف في نهاية الأمر أن تفوّقه أو شهاداته العلمية ليست هي العامل المطلوب لتغيّر مسار حياته، واكتشف أن (الواسطة أو المحسوبية) هي كل ما يحتاج إليه للحصول على ذلك المستقبل الذى يحلم به، وحسب مكانة الموصي تكون الوظيفة، ولكن من أين له بأقارب من أمثال هؤلاء؟ أو من أين له بتلك الآلاف التي تُدفع ثمناً للحصول على مثل تلك التوصية؟
عمل وحيد تمكّن من الحصول عليه في النهاية. كان ذلك في إحدى الشركات الزراعية في واحدة من القرى الصحراوية الجديدة، وذلك بتوصية من أحد زملائه. عملٌ لا يتناسب مع درجة الماجستير التي حصل عليها، لكن مكّنه من الإنفاق على أسرته. خمسة أشهر هي أقصى مدة أمكنه أن يقضيها في تلك الوظيفة.
ليلة وحيدة يقضيها في أحضان عروسه في نهاية كل أسبوع. يأتي في المساء، ويتسلل من فراشه مع الساعات الأولى من صباح اليوم التالي ليذهب إلى عمله، لتنتظر عروسه -التي لم يمرّ على زواجها بضعة أشهر- سبعة أيام وست ليالٍ قبل أن يعود إليها مرة أخرى. وشيئاً فشيئاً بدأت المشكلات تتسلل إلى ذلك البيت الناشئ، والحق كل الحق لزوجته في الامتعاض وعدم الرضى عن تلك الحياة. لكنها لم تعلم أنها ليست وحدها من يعاني من قسوة الأمر، هو أيضاً كان يعاني من الشيء نفسه، ولم يكن أمامه خيار سوى ترك ذلك العمل، والبدء في البحث عن عمل جديد غالباً ما ينتهي بتركه في النهاية والبدء في البحث عن آخر.