كتاب " أصول علمي الإجرام والعقاب "، تأليف د. طلال أبو عفيفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أصول علمي الإجرام والعقاب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

أصول علمي الإجرام والعقاب
الفصل الثاني
تاريخ علم الإجرام ومراحل تطوره
في المفهوم المعاصر فإن علم الإجرام هو العلم الذي يبحث في تفسير السلوك الإجرامي الضار بالمجتمع وفي مقاومته، عن طريق إرجاعه إلى عوامله الحقيقية. وهذه العوامل قد تتمثل في الظروف الاجتماعية المحيطة بالجاني، فيوصف عندئذ بأنه علم إجرام اجتماعي، كما قد تتمثل هذه العوامل في دوافع داخلية كامنة في نفس الجاني فيوصف عندئذ بأنه علم إجرام فردي أو علم طبائع الجناة أو العلم الإنساني(24).
وعلم الجرائم هذا بالمعنى الفني لكلمة "علم" حديث نسبياً شأن كل العلوم الأخرى المتصلة بالإنسان والتي لم تزدهر إلا بازدهار الأسلوب الوصفي في التنقيب عن حقائق الحياة بعد أسلوب الافتراض النظري أو التخيل الرحب. على أن ذلك لا ينفي أن من يعود إلى كتابات الأقدمين قد يجد بعض الحقائق التي تكشفت فيما بعد وخلال القرنين الثامن والتاسع عشر بظهور دراسات ونظريات حول علم الإجرام تطورت تاريخياً حتى وصلت إلى ما وصل إليه علم الإجرام هذه الأيام.
لهذا، نبحث في هذا الفصل في نشأة وتاريخ علم الإجرام في مبحث أول، ومراحل تطور علم الإجرام في مبحث ثان.
المبحث الأول
نشأة وتاريخ علم الإجرام
عُرفت الجريمة منذ القدم عندما قتل قابيل أخاه هابيل، وبعد ذلك استمرت الجريمة في المجتمعات البدائية بالخروج عن نظام الجماعة، وكان الاعتقاد السائد أن الأسباب التي تدفع مرتكبي الجرائم لارتكاب جرائمهم هو وجود أرواح شريرة بأجسادهم لابد من طردها من خلال تعذيب المجرم(25). أما فلاسفة الإغريق مثل ايبوقراط وسقراط وأرسطو وأفلاطون فقد أرجعوا الجريمة إلى نفسية مضطربة يرجع اضطرابها إلى عيوب خلقية جسيمة أو انحرافات عقلية(26).
والتفكير الحقيقي في أسباب الجريمة يرجع إلى القرن السادس عشر حيث كتب المؤرخ الانجليزي الشهير (توماس مور) حول ازدياد الجرائم في انجلترا بشكل ملحوظ رغم قسوة العقوبات التي كانت مقررة لها، مستخلصاً من ذلك أن فرض عقوبات قاسية لا يجدي في القضاء على ظاهرة الجريمة إن لم يقترن ذلك بالبحث عن أسباب هذه الظاهرة والقضاء عليها. وفسّر (توماس مور) ازدياد عدد الجرائم في عصره بما كانت عليه حالة الناس من سوء وفقر بسبب البطالة الناجمة عن انتزاع مساحات من الأرض من أيدي كثير من المزارعين لاستغلالها في رعي الماشية. فسوء الأحوال الاقتصادية وحرمان الناس من أسباب العيش المشروعة هو في نظره السبب الرئيس الذي يدفعهم إلى ارتكاب الجرائم(27).
وفي أواخر القرن السادس عشر أصدر العالم (بورتا) كتاباً عن أسباب الإجرام عزا فيه السلوك الإجرامي إلى صفات خاصة في ملامح الوجه لاسيما الجبهة والعينين. وقد أيد هذه الفكرة فيما بعد بعض الفلاسفة والعلماء أمثال (داروين ولمبروزو)(28).
وفي بداية القرن التاسع عشر وفي عام 1833 ظهر مؤلف علمي للعالم الفرنسي (جيري) خصصه لدراسة ظاهرة الجريمة أشار فيه إلى دراسات إحصائية حول الجريمة في فرنسا حلّل خلالها أثر الجنس والعمر والحرفة ومستوى الثقافة وتقلبات الطقس في الجريمة. وفي عام 1864 أصدر (جيري) مؤلفاً آخر عن مقارنة إحصائيات الجريمة في فرنسا بمثيلاتها في انجلترا، وقد انتهى فيه إلى عدة نتائج: منها أن بواعث ظاهرة الإجرام تتكرر سنوياً بنفس النظام، وأن الصلة بين الجهل والجريمة غير محققة، لأن بعض الجرائم يزداد مع ازدياد التعليم، وكذلك أيضاً الصلة بين الفقر والجريمة، حيث إن بعض الجرائم يزداد مع ارتفاع مستوى المعيشة(29).
وفي بلجيكا أصدر (كيتيليه) عام 1835 مؤلفاً عن "الإنسان وتطور ملكاته". وقد عرض فيه لمباحث تعد من صميم علم الإجرام الحديث مثل أثر الطقس في الجريمة، وأثر الظروف الاقتصادية، والذكورة والأنوثة، وتغير الانحراف نحو الجريمة بحسب سني الحياة المختلفة. وقد وزع (كيتيليه) الجناة بحسب صفاتهم الجسمانية والأدبية، كما وزع المجتمعات إلى عدة فئات بحسب الجنس، والسن، ونضج العقل، وذلك من ناحية السلوك الإجرامي لهذه الفئات، وكان (كيتيليه) شديد العناية بتنظيم الإحصاءات الجنائية وتبويبها على أسس علمية، لذا ينظر إليه بعض الباحثين بوصفه مؤسساً لعلم الإحصاء الجنائي.
وأخص ما يميز نتائج بحوث (كيتيليه) أنها حاولت أن تفسر جميع ظواهر الحياة الاجتماعية بحسب قانون "الأعداد الضخمة"، وأن تعتبر الجريمة- لا كواقعة فردية- بل كواقعة عددية تبدو في تذبذباتها الدورية كعمل رياضي خاضع لظروف الساعة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا النظر لا يرتبط بالمجرم الحي الذي يضرب صفحاً عن خصائصه البيولوجية الواقعية، بل بالحساب الإحصائي عن الإنسان المتوسط الذي لا وجود له في الواقع(30).
ويؤخذ على أبحاث العالمين (جيري وكيتيليه) أنهما أسرفا في الاعتداد بالعوامل الاجتماعية على حساب العوامل الفردية. مما كان له أكبر الأثر في الاتجاه الفكري لبعض العلماء الذين اعتبروا النظام الاجتماعي هو سبب الظاهرة الإجرامية، أما المجرم فهو ضحية لهذا النظام. ولعل السبب في ذلك أن هذين العالمين قد اعتمدا في دراستهما بصفة أساسية على أسلوب الإحصاء، فهذا الأسلوب يصلح لدراسة الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية فحسب ولكنه يعجز عن أن يفسر لنا أسباب الجريمة باعتبارها ظاهرة فردية حيث يتحتم دراسة نفسية الجاني لاستخلاص البواعث الشخصية التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة.
غير أن هذا النقد لا يقلّل من فضل هذين العالمين إذ ألقيا الضوء ساطعاً على العوامل الاجتماعية للسلوك الإجرامي بعد أن اقتصرت الدراسات السطحية المتناثرة السابقة عليهما على العوامل التكوينية لدى المجرم، سواء ما تعلق منها بجسمه أو بنفسه، وبذلك يرجع إليهما الفضل في وضع اللبنات الأولى لعلم الاجتماع الجنائي(31).
وتعد دراسات العالمين (جيري وكيتيليه) وعلماء آخرين من وجهة نظر البعض من أهم الدراسات في علم الإجرام التي ظهرت في القرن التاسع عشر وحتى الآن، في حين يرى البعض الآخر أن الدراسات في علم الإجرام لم تزدهر إلا في أحضان المدرسة الوضعية، ومهما يكن من أمر فإنه لا يمكن إغفال دور المدرسة الجغرافية في إبراز العوامل الاجتماعية لإحداث الظاهرة الإجرامية، ويسجل لها أيضاً أنها مهدت الطريق للمحاولات العلمية في تفسير الظاهرة الإجرامية(32).